منوعات

سيد النقشبندي.. المحلق بالأرواح

صوت يطير بالقلوب إلى الملأ الأعلى، ويحلق بالأرواح في عوالم الصفاء والنور، يثير الأشواق إلى الله، ويطرب القلوب بذكر رسوله، ويملك الأفئدة عند مدحه لآل البيت.. سيد النقشبندي، علم الإنشاد الديني في مصر وبلاد العرب والمسلمين، وصاحب الحنجرة النادرة، والصوت القوي الصداح الساحر الأخاذ. وهب حياته شدوا وترنما وذكرا ومدحا، واهتزت ساحات المساجد والسرادقات مع نبرات صوته السماوي المتلألئ، عاش زاهدا، ومات فقيرا، وترك تراثا ضخما من التسجيلات يعد ثروة دينية وفنية عظمى.

النقشبندي.. كلمة مكونة من جزأين: نقش وبند، أي النقش على القلب، أو نقش اسم الله على القلب، وهي طريقة صوفية انتسب إليها آباء الشيخ وأجداده، حيث التصوف، وخشوع القلب، وحب النبي وآله بيته الأبرار.

ولد الشيخ سيد محمد النقشبندي في 12 مارس- آذار، عام 1921 في قرية دميرة، التابعة لمركز طلخا، بمحافظة الدقهلية في مصر، لكن سرعان ما انتقلت أسرته إلى مدينة طهطا جنوب الصعيد، وفيها حفظ القرآن الكريم على يد الشيخ أحمد خليل ولم يتجاوز عمره 8 سنوات. بدأ في تعلم الإنشاد الديني من خلال حضوره حلقات الذكر لمريدي الطريقة النقشبندية، التي انتمى إليها جده الشيخ محمد بهاء الدين النقشبندي، الذي نزح من بخارى بولاية أذربيجان إلى مصر للالتحاق بالأزهر الشريف، ووالده الشيخ محمد النقشبندي أحد علماء الدين ومشايخ الطريقة النقشبندية الصوفية, كان يتردد على مولد أبي الحجاج الأقصري، وعبد الرحيم القناوي، وجلال الدين السيوطي، وبدأ في حفط  أشعار البوصيري وابن الفارض .وفي عام 1955 انتقل إلى مدينة طنطا، واستقر فيها بجوار ضريح القطب الصوفي الشهير أحمد البدوي، يرسل شدوه للزوار المحبين، عازفا عن الإقامة في القاهرة رغم بريقها وجاذبيتها واتساع فرص الشهرة فيها.

أما انطلاقة النفشبندي الكبرى، فجاءت عند إحيائه حفل المولد بمسجد السيدة زينب عليها السلام، بحضور الإذاعي الشهير مصطفى صادق، والذي شده صوت الشيخ فقدمه لمدير إذاعة البرنامج العام بالقاهرة السيد محمد محمود شعبان، من وقتها انطلق صوت الشيخ إلى الإذاعات العربية، وعرفه العالم الإسلامي كله، وفي عام 1968 وفي مسجد الإمام الحسين عليه السلام بالقاهرة، كان الشيخ يحيي الليلة الختامية للمولد النبوي الشريف والتقى مصادفةً بالإذاعي أحمد فراج رحمه الله، الذي قدمه للإذاعة والتلفزيون فيما بعد.

قدم الشيخ سيد النقشبندي مختلف فنون الإنشاد الديني، من ابتهالات وتواشيح، وقراءة الموالد إلى الأناشيد التي لحنها له كبار الموسيقيين، واتسم الشيخ بطاقة صوتية هائلة، لاسيما في أداء الدرجات العليا، ومنطقة الجوابات وجوابات الجوابات، وقد انهالت الدعوات على النقشبندي لإحياء المحافل الكبرى في مصر وخارجها، فزار لبنان وسوريا، وإيران، والعراق، والإمارات العربية، والأردن والسودان واليمن، وبلاد المغرب العربي، وإندونيسيا، وغيرها.

كان النقشبندي موصولا بآل البيت، يحمل في قلبه مودة كبيرة لهم، ويحرص على إحياء ذكراهم العطرة، ويلتقي بجمهوره في المساجد التي تضم مقامات أهل البيت في القاهرة، لاسيما في مسجد الإمام الحسين والسيدة زينب، كان يتقرب إلى الله بمودتهم، ويستشفع بمديحهم لنيل المغفرة والرضوان.

كانت الجماهير تلتف حول صوت النقشبندي خلال الاحتفالات الدينية الكبرى، وفي إحياء المناسبات الإسلامية مثل مولد الرسول الأكرم، وذكرى الهجرة النبوية، وليلة القدر والإسراء والمعراج، وكان التجاوب معه كبيرا، لكن النقشبندي سجل أيضا عددا كبيرا من الابتهالات والأناشيد داخل الاستوديوهات، وبعيدا عن الجمهور، وحققت هذه التسجيلات نجاحا كبيرا، وانتشارا واسعا.

نشيد مولاي.. من ألحان بليغ حمدي

واكب النقشبندي بصوته قضايا أمته، وأيد بأدعيته وابتهالاته جيش مصر في حربه مع الكيان الصهيوني، وسجل عدة أناشيد لرفع الروح المعنوية للجنود المصريين في سيناء والقنطرة، ومساندة المقاومة الشعبية في السويس.

وحين حاولت القوات الإسرائيلية دخول مدينة القنطرة أثناء حرب أكتوبر 1973، أنشد النقشبندي “نادى جنود الله يوم القنطرة.. لازلت عالية اللواء مظفرة”

يوم القنطرة بصوته

أما فلسطين، فكان لها في إنشاد النفشبندي نصيب وافر، مناصرا لشعبها، مدافعا عن ترابها، مواجها لمغتصبيها، ويرفع بصوته إلى الله الشكوى: فلسطين نادت وهي تبكي.. ودمعها وإن حجبته الكبرياء يسيلُ..
وفي روحها للحزن نارٌ ولوعة..  ٌوللصبر فيها ضجة ٌوعويلُ..
إلهي فانصرها على كل ظالم.. فأنت بنصر الأولياء كفيلُ..
إلهي وليرجع إلى الأرض أهلها.. ففيهم حنينٌ للرجوع طويلُ.

ومن تسجيلات النفشبندي المترنمة بقضية فلسطين، نستمع إلى هذا المقطع القوي المندد بالتآمر الدولي على شعب فلسطين الأبي، والمطالب بمواجهة المحتل بالسلاح والمال.

النقشبندي منددا بهيئة الأمم لموقفها من قضية فلسطين

في 14 فبراير – شباط 1976، توفي إمام المداحين، صاحب الحنجرة الذهبية، عن عمر ناهز 55 عاما، ودفن بحي البساتين في القاهرة، إلى جوار قبر والدته بجوار مسجد السادة الخلوتية، وكرمته مصر بمنحه وسام الجمهورية من الطبقة الأولى مرتين، لكن التكريم الأكبر بقى متمثلا في حب الجماهير لصوته، وفي حضوره الدائم رغم مرور عقود على الرحيل.

هيثم أبو زيد

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock