رؤى

مراجعات الإسلاميين المغاربة.. صلاح الدين الجورشي نموذجا (2)

يواصل المفكر المغربي صلاح الدين الجورشي قراءته النقدية لمسيرة حركات الإسلام السياسي، كاشفا تلك العيوب التي تنتجها عملية التربية لدى مثل هذه التنظيمات، عبر استقصاء دقيق، بعمق العارف بأدبيات تلك التنظيمات التي تلجأ  إلى آليات دفاع لصيقة بها، ومنها إضفاء القداسة على سلوكها وأساليب حركتها عبر الادعاء بأنها تسير في طريق الأنبياء، وأن النجاح يرتبط عضويا بمدى الاقتداء بالرسول.

هذا النهج هو نفسه الذي كرسه سيد قطب عبر قاعدة “الجيل القرآنى الفريد” و”الجماعة المسلمة”، قاطعا بذلك كل محاولة للطعن فى المنهج العام للحركة الإسلامية، عبر اللجوء إلى مفردات متداخلة ذات قداسة تقمع وتردع الوعي الناقد، مثل: الرسالة، الشرع، الوحي. وهي مفردات يجري توظيفها بما يعطل الحس النقدي لدى الفرد، فيما يتسع الحديث عن التزامه وانضباطه وقوة إيمانه أو ضعفه ومدى حبه للدنيا وقيامه بالفرائض والنوافل واستعداداته للتضحية ووعيه بتلبيس إبليس.

كما يتسع توظيف النهج نفسه ليشمل المجتمع بأسره، عبر المبالغة في الحديث عن انحرافاته وأخطائه وجهله بالدين وهيمنة القوى المعادية عليه، بما يمهد السبيل للتنظير لمفاصلته بزعم مساندته لجاهلية سياسية واجتماعية. ويمتد الأمر أيضا إلى الدولة، بوصفها جهاز القمع الذي قاسى منه الإسلاميون الأمرين، وبالتالي في بمثابة جهاز الأهواء والطابور الخامس الذي تنفذ من خلاله مخططات الأعداء.

يبقى القدر في النهاية الشماعة التي تعلق عليها كل المصائب الخطيرة المرتبطة أساسا بسوء التقدير والتدبير في نهج تلك الحركات الإسلامية. يؤكد الجورشي في فقرة هامة هذا المعنى بالقول: “صنعت الأدبيات الإسلامية الحديثة من خلال ما يسمى بفقه الحركة عالما وهميا للعزاء، يلخص في كلمة المحنة، فالله هو الذي قدر أن يٌضهط الإسلاميون! كأن المحنة خارج السنن، ولا يحاسب عن صنعها ونتائجها في التصور الإسلامي”.

بفضل هذه الآليات وغيرها تٌحاصر الأزمة الحركات الإسلامية كلما احتدت، ليقع إعادة إنتاجها فى مرحلة أو أخرى، ومن يطرح في المقابل ضرورة الاشتباك مع الواقع بحثا عن توصيف وعلاج جذري، يتم عزله ووضعه في مرمى ما يصفه الجورشي بـ”الأسلحة الثقيلة”، من قبيل وصفه بالتخاذل ومفارقة الجماعة وحب الدنيا والسقوط على طريق الدعوة، وغيرها من مفردات الاغتيال المعنوي، وهو الميكانيزم المفضل لدى الجماعة تاريخيا، والذي حافظت على توظيفه دون شك فى جدواه.

وهنا يلفت الجورشي إلى نهج تلك الجماعات في المراوغة عبر رفع شعار “الإسلام منهج حياة وبديل حضاري”، الذي يراه فاقدا للمضمون رغم أنه حافظ على الوحدة الداخلية داخل ذلك المشروع الإسلامي الذي لم يتجاوز مستوى الأفكار إلى حيز البرامج والخطط. ما يفضي في النهاية إلى تكريس صورتين للخطاب، إما هيكلية ضبابية مشحونة بالعقيدة والطموح تغمرها الشعائر والتضامن والمنزع الأخلاقي ونقد الآخر وتوظيف الأزمة والانغماس فى الممارسة بتضخيم فقه الحركة والمراهنة على الحلم والانتظار،  وإما هيكلة تاريخية مسكونة بالتراث كل حسب فرقته ومذهبه ومراجعته ومصادره، حيث تتجمع من جديد معلومات عن أصول الدين والفقه لتختلط بالتصوف ورواية التاريخ رواية متقطعة وانتقائية مع تجديد فى صيغ التعبير والإخراج.

وفى كلا الحالين يبقى المسلم مرابطا فى مكانه يكتوى بأزمة تجارب تنموية فاشلة، وينتظر من يحول أحلامه المشروعة إلى حقائق ملموسة، لديه ماض جميل لكنه غير قابل للتكرار، وواقع بمثابة نار لا يقوى على إطفائها، ويبدو أمامه الغرب جميلا لكنه مفترس.

ويخلص الجورشي إلى أن افتقار الحركات الإسلامية إلى الوضوح والصلابة النظرية فى مواجهة التحديات المعاصرة يدفعها فى النهاية إلى نهايات ثلاث: إما الانغماس فى كتب التراث بحثا عن أجوبة لتساؤلات الحاضر، ما يوقعها في انتقائية تاريخية لتعيش على أمجاد السلف وتنغمس في انقسامات الماضي البعيد.

وإما أن تلجأ لتسطيح صراعها الفكري مع الأطراف المختلفة، ليس فقط بإعادة طرح قدر كبير من إشكالات الماضي، بل باللجوء للحدية التي تغري بالإقصاء والتورط فى السباب والشتائم ونفى الآخر.

وإما أن تلجأ فى الأخير عندما تضغط عليها الأحداث وتجد نفسها مضطرة للتعريف ببرنامجها الإصلاحي، إلى التلويح بتطبيق الشريعة وتخوض معركة حامية الوطيس من أجل إقامة الحدود ودفع المحرمات كالخمر والميسر، بما يؤدى فى الغالب إلى اختزال المشروع الإسلامي فى مشاهد متفرقة لقطع الأيادي أو تكسير قوارير الخمر أو جلد الزناة أو خوض معارك جانبية حول كتاب أو رواية أو مسرحية أو فيلم وغيرها، مشعلة أوار معارك من هذا النوع لتعبئة الأنصار واستعراض القوة فى مواجهة الحكام وإرسال رسائل لا تحتاجها الأنظمة فى تأكيد الخصومة وتأجيج الصراع بينهما.

أحمد بان

كاتب و باحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock