رؤى

الترابي.. إصلاحي صرع مشروعه بمغامرة السياسة

“الدين بمعنى الحق هدي رباني أزلي مطلق لا يحده الزمان ولا المكان، لكن الدين بمعنى التحقيق إنما هو كسب بشري سعى للتوحيد بين مثال التكليف الأزلي وحال الابتلاء الواقع، فهو متأثر بالضرورة بظروف الزمان والمكان، فالدين من حيث هو تدين كسب تاريخي يبلى بالتقادم ويلزم تجديده كلما تقلبت صروف الزمان ليتصل أصله عبر المواقف الإيمانية المتجددة، ويدوم جوهره من خلال الصور العملية تعبيرا عما هو ثابت وتكييفا لما هو مرن من معانيه وأشكاله”.

بهذه العبارة الموجزة، يمهد الترابي أذهان أبناء الحركة الإسلامية لضرورة التجديد والمرونة والتأمل فى طبيعة الدين والتدين، لينتقل بعدها للحديث حول مراجعة صيغة ارتباط الحركة الإسلامية في السودان بالتتنظيم الدولي للإخوان الذي كان رأسه فى مصر، لتكون صيغة تنسيقية جبهوية، وليست صيغة مركزية صارمة تستلهم بنى التنظيمات الهرمية المتكلسة مبنى ومعنى.

اتضحت في وعي الرجل مفاهيم سبق بها كل نظرائه، وبدا أبعد نظرا وأبهى قريحة منهم جميعا. تأمل مقاربته حول ما ينبغي أن تكون عليه مسيرة الحركات الإسلامية، بالإسقاط على واقع  عالمية الرسالة الخاتمة التي تحققت لديه عبر مراحل، من إنذار العشيرة الأقربين إلى خطاب أم القرى وما حولها، إلى هداية دولة التولي والمهجر في المدينة، إلى تذكير العرب كافة ومن حولهم إلى الاندياح العالمى القديم والمتجدد إلى يومنا هذا مرحلة بعد مرحلة.

كان الترابي يمهد بذلك للمعنى الذي ظل يحاول إقناع قيادات التنظيم الدولي به، وهو التباين الطبيعي في تجارب الحركات الإسلامية وصعوبة تنميطها وصبها فى قالب لا يحترم خصوصيات كل قطر، محاولا لفت وعيها لضرورة التجدد، مؤكدا أن السمة المحلية تعززت فى السودان وتأصلت من خلال مناهج حركية خاصة، واتسع مدى التباين مع تجارب مصر وغيرها.

علاقة متوترة

الرجل يرصد أنه على مدى 65 سنة تجمدت الحركة الإسلامية في مصر وغالب البلاد العربية جراء عوامل سياسية وذاتية، مشددا على وجود عوامل ذاتية بدا منتبها لها وحريصا على الالتفاف عليها، تستوجب ترك المجال حرا لكل حركة وكل قطر ليتعاطى في  فضائه ووفق  تقديره مع حركته.

كان يرى أن الحركة الإسلامية تخلفت فى مواقع عالمية أخرى لصالح تيارات سياسية يسارية ووطنية، بينما ظلت الحركة فى السودان حية تنمو وتتطور وبقيت الصلة بين التنظيم الدولي والسودان متوترة مشوبة برواسب قومية، وهو يصف تلك العلاقة بأنها بدأت عفوية بغير تدبير نظامي قبل أن تصل الى مرحلة خلاف، بإصرار قادة الإخوان في مصر على علاقة توحيدية تضع التنظيمات في مختلف الأمصار موضع الشعب التابعة رأسا للقيادة بمصر وفقا للائحة تنظيمية متقادمة.

يقول: “ومهما كان المرشد المرحوم الهضيبى مبديا زهده وعجزه أن يتمكن من ولاية أمر عالمي، فقد رفضت القيادة المصرية مشروع تأطير للعلاقة صدر بعد موسم الحج عام 1972، جاء بنهج توفيقي بين نظرية الإلزام العالمي والاستقلال القُطري بما يحفظ أصل الاستقلال المحلي الواسع ويوجد وظائف مركزية محدودة ويجعل شؤونا أخرى رهن التشاور المسبق، رجاء أن يتعزز التوجه نحو معادلة أوثق توحيدا في المستقبل”.

اتسع الخلاف مع اشتراط التنظيم العالمي للبيعة والاندراج التنظيمي الكامل، وإبداء الضيق الشديد جدا بالتباين في الأفكار والمناهج الحركية لدى الحركة في السودان، ثم التورط بضم المنشقين إليه والإصرار على عزل السودانيين فى الخارج.

الصدام مع القطبية

كانت رؤية التيار القطبي الذي حكم مسيرة الإخوان قد أنتجت آثارها في الواقع التنظيمي والفكري للجماعة، وكان من الطبيعي أن يتبرم أمثال الترابي بهذا السلوك والتوجه، وأن يواصل الرجل تحليقه في عالم الفكر، بينما تغرق الحركة الإسلامية أكثر في أوحال التنظيم.

“الإيمان الفاعل مقدم على الوحدة التامة”.. هكذا عبر الرجل عن فقهه للأولويات والأهداف تجاه حركة متكلسة العقل والوسائل مهمومة بضبط التنظيم كجيش يعمل بقيادة مركزية. حاول الترابي أن يهذب هذا التوجه باستخدام مصطلح الالتزام بديلا عن البيعة، والتعاون بديلا عن الاندماج، لكن التنظيم الدولي عاند طموحاته وبدا معزولا عن موجته الفكرية.

واصل التنظيم الدعوة لمزيد من القيود فيما كانت خطى الترابي أسرع، حيث طبع الجبهة القومية الإسلامية بطابعه السياسي منذ تسلمه قيادتها، وأسس في العام 1991 المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي الذي ضم ممثلي 45 دولة عربية وإسلامية وتم انتخابه أمينا عاما لهذا المؤتمر.

وكما اختلف الترابي مع تنظيم الإخوان حول صيغة الارتباط وقضايا البيعة، اختلف أيضا معه على ضرورة التوحيد بين مصلحة الحركة ومصلحة السودان الوطنية وضرورة التوفيق بين قيم الإسلام ومعاييره المطلقة ومقتضيات المصلحة الوطنية والتوفيق بين الاستقامة والوضوح فى المعاملات ومراعاة أعراف الدبلوماسية والعلاقات الدولية.

خطاب مغاير

سبق الرجل  بأفكاره كل الحركات الإسلامية في مناقشة الأسئلة المحظورة، وتعززت قطيعته مع التنظيمات لتبدأ بعدها خصومته مع الحكومات، وفي الوقت الذي كانت تسيطر فيه أفكار سيد قطب وتفسيراتها المتعددة على عموم الحركات الإسلامية، خاصة في المشرق العربي، وتسوقها نحو العزلة الشعورية عن مجتمعاتها “الجاهلية”، كان الترابي يبشر بنظرية “التفاعل مع المجتمع”، ويصوغ خطابا إسلاميا مغايرا، بل ومفارقا للخطاب الإسلامي السائد وقتها.

دشن الترابي خطابه الجديد بعدد من الكتب مثل: “الإيمان وأثره في حياة الإنسان”، “تجديد الفكر الإسلامي”، “تجديد أصول الفقه”، “قيم الدين ورسالية الفن”، “نظرات في الفقه السياسي”، فضلا عن عدد من المحاضرات أهمها: “الحركة الإسلامية والتحديث”، “قضايا فكرية وأصولية”، وكلها تحمل أفكارا وآراء تؤكد أن صاحبها يمتلك مشروعا فكريا تجديديا متكاملا.

لم يأخذ مشروع الترابي حقه من القراءة والدراسة، ليس فقط بسبب طغيان الجانب السياسي على صاحبه، ما جعله يبدو في بعض المراحل سياسيا أكثر منه مفكرا، بل لأن هذا المشروع -وهذا هو الأرجح- يحمل آراء وأفكارا تتجاوز في تجديديتها السقف المسموح به في الفكر الإسلامي المعاصر. ولولا أن الترابي (السياسي) تصادم بطموحه للعب دور الحاكم والمفكر مع كل الأنظمة العربية تقريبا لكان أول من تصدى له وواجهه الحركات الإسلامية التي كان معظمها يتعامل معه باعتباره خارجا عليها، ويُنظر إلى أفكاره باعتبارها خلايا سرطانية يجب استئصالها، ولكن لم يدفع تلك الحركات للسكوت عليه إلا صدامه مع الأنظمة.

تبقى مراوحة الرجل  بين أدوار المفكر والسياسي ومحاولة الجمع المستحيلة بينهما أبرز ما وسم مسيرته المثيرة للجدل والتي لم تنته بموته.

أحمد بان

كاتب و باحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock