مختارات

حروب التضليل.. سبل مواجهة تدمير الخصوم على مواقع التواصل الاجتماعي

صباح عبدالصبور- باحثة في العلوم السياسية

اعترف المؤرخ العسكري البروسي “كلاوزفيتز” في كتابه الشهير “في الحرب”، الذي كُتب في القرن التاسع عشر، بأن لكل عصر نوعه الخاص من الحروب، وأنه في الغالب تظهر نظريات جديدة للحرب كنتيجة لعددٍ من التغيرات الجذرية في البيئة الأمنية الدولية، والدبلوماسية، والسياسة الداخلية، وكذلك الأيديولوجيا، والاقتصاد، والتقدم التكنولوجي. 

واعتبر أن الحرب هي السياسة بوسائل أخرى، وهي جزء من سلسلة متصلة تشمل التجارة، وكل التفاعلات الأخرى التي تحدث بين الشعوب والحكومات. ورأى أن الانتصار في الحرب يتحقق مع إيجاد وتحييد “مركز ثقل” الخصم، فيقول: “إذا اكتشفت كيف تشكل أو تحطم روح منافسك، فقد تربح الحرب، مع تجنب مواجهة جيش العدو بالكامل”.

وقد ظهرت على مرّ التاريخ موجات متتالية من التطورات التكنولوجية الجديدة التي توفر الوسائل لاستنزاف روح “العدو” من بعيد.

وتُعد شبكة الإنترنت من أبرز تلك التطورات في العصر الحديث التي وُظّفت من قبل الدول والفاعلين من غير الدول لتحقيق هذا الهدف، فلم تعد مهاجمة مركز ثقل العدو (عقول وأرواح شعبه) تتطلب عمليات قصف ضخمة، لكن كل ما يتطلبه الأمر هو هاتف ذكي، واستهداف المستخدمين، وتحقيق الهدف السياسي للحرب دون إطلاق رصاصة واحدة، وهو ما يُعد نوعًا جديدًا من الحروب أطلق عليه كل من “بيتر وارن سينجر” (خبير استراتيجي في مركز نيو أمريكا) و”إميرسون بروكينج” (باحث زميل في مجلس العلاقات الخارجية) “شبه الحرب” في كتابهما المعنون “شبه الحرب: تسليح مواقع التواصل الاجتماعي”، الذي صدر في أكتوبر الماضي.

ويعرض الكتاب العديد من ملامح الحرب التي حددها “كلاوزفيتز”، لكن على “شبكات التواصل الاجتماعي”. ويدور حول سؤال بحثي رئيسي مفاده: كيف أصبح الإنترنت ساحة معركة جديدة في القرن الحادي والعشرين؟.

وفي كتابهما يستعرض الباحثان تاريخ منصات وسائل الإعلام الاجتماعي، واستخدامها في الثقافة الشعبية، والصراع الحديث، ويقارنان بينها وبين التطورات التكنولوجية السابقة (مثل التلغراف والراديو)، مع القيام بربط استخدامها بنظرة “كلاوزيفيتز” للحرب.

وبشكل عام يضع المؤلفان إطارًا لفهم كيفية قيام وسائل الإعلام الاجتماعية بتشكيل السياسة العالمية والصراعات المعاصرة من خلال فحص دورها كمنصة لجمع المعلومات، والاستهداف، والعمليات الإلكترونية، والحرب النفسية، وأنشطة القيادة والتحكم.

حرب رقمية

يُعد ظهور الإنترنت تطورًا مفاجئًا وخطيرًا في الحرب والسياسة الدولية، ووفقًا للكاتبين فقد غيّرت وسائل التواصل الاجتماعي في ديناميات الصراع، حيث باتت مكانًا لشن حرب جديدة تستهدف عقول وقلوب الشعوب. ويضيفان أن العديد من الدول القومية وكذلك الفاعلين من غير الدول بدؤوا على حد سواء في استخدام مواقع التواصل الاجتماعي للتلاعب بالتحيزات المعرفية للسكان، وذلك من خلال توظيفها للتأثير على أفكارهم، وتوجهاتهم، واختياراتهم. وليس هذا فحسب، بل يمكن استخدامها لتجنيد أفراد للقيام بهجمات إرهابية، أو نشر الكراهية والاستياء بين الشعوب المتنافسة، مما قد يؤدي إلى نشوب حرب أو إبادة جماعية. علاوة على إحداث شقاق وانقسام في الأصوات داخل البلد الواحد، وتحقيق الهدف السياسي للحرب دون خسائر تُذكر.

ويجادل المؤلفان بأن شبكة الإنترنت قد منحت الحكومات طرقًا جديدة للسيطرة على شعوبها من ناحية، وتحقيق الانتشار العالمي من خلال قوة “التضليل” من ناحية أخرى. ويضرب الكتاب مثالًا على ذلك بحملة روسيا لقمع و”تسميم” سياسات خصومها المحليين من خلال وسائل الإعلام الاجتماعية، وفي الوقت ذاته تعمل على التأثير على شعوب الدول المنافسة، وبث أفكار الفرقة، وانعدام الثقة، من خلال التلاعب بالحقائق والأحداث.

وعلى مستوى آخر للحرب، فقد غيّر الإنترنت مدى سرعة انتشار المعلومات، ومدى انتقالها، ومدى سهولة الوصول إليها. وقد أعاد ذلك صياغة كل شيء من الخطط التشغيلية العسكرية إلى الأعمال الإخبارية إلى الحملات السياسية. وباتت المفاجآت العسكرية الكبرى شبه مستحيلة وفقدت سريتها.

وقد استطاعت بعض التنظيمات الإرهابية التكيف بالفعل مع هذا الافتقار إلى السرية، فعملت “داعش” على تحويل هذه المشكلة الظاهرية إلى جزء أساسي من استراتيجيتها، فأطلقت هاشتاجًا على تويتر لتشجيع ودعم عملياتها في العراق تحت مسمى #AllEyesOnIsis “كل العيون على داعش”، وتلقوا العديد من التغريدات من المؤيدين لعملياتهم.

قواعد الحرب الجديدة

يضع الكاتبان مجموعة من القواعد للحرب الرقمية على مواقع التواصل الاجتماعي، على النحو التالي:

أولًا- باتت بيئة المعلومات الحديثة مستقرة، والإنترنت هو الآن وسيلة الاتصالات البارزة في العالم، وسيبقى كذلك في المستقبل القريب. ومن خلال وسائل التواصل الاجتماعي ستنمو الشبكة من حيث الحجم والنطاق والعضوية، ولكن شكلها الأساسي ومركزيتها بشأن نظم المعلومات لن يتغير.

ثانيًا- يُعد الإنترنت ساحة معركة وليس رسولًا للسلام والتفاهم كما يقال، وإنما هو منصة لتحقيق أهداف فاعلين مختلفين.

ثالثًا- تغير ساحة المعركة دفع إلى التفكير في المعلومات نفسها، فمن المعلوم أن الحدث يكون قويًّا فقط إذا صدّقه الناس، ولذا يعمل “المقاتلون” على تزييف “الحقائق” فيما يصب في مصلحتهم، وذلك من خلال التلاعب النفسي والسياسي والخوارزمي بها.

رابعًا- لم تكن العلاقة بين الحرب والسياسة بهذا التشابك من قبل، أما في الفضاء الإلكتروني فهناك تطابق تام بين الوسائل التي تؤدي إلى نجاح الجوانب السياسية والعسكرية لهذه المنافسة. ونتيجة لذلك، اتخذت السياسة عناصر من حرب المعلومات، في حين يتأثر الصراع العنيف بشكل متزايد بحروب الرأي عبر الإنترنت، وهو ما يعني تحول مهندسي “وادي السيليكون”، حيث تُنتج الأعمال التقنية العالية والاختراعات الجديدة في مجال التكنولوجيا، دون قصد وسطاء قوة عالميين. وتشكل قراراتهم ساحة المعركة التي يتقرر فيها كل من الحرب والسياسة.

خامسًا- الجميع جزء من المعركة، ومحاطون بكمّ كبير من الصراعات على المعلومات، بعضها مرئي وبعضها غير مرئي. وتهدف تلك الصراعات إلى تغيير مفاهيمنا عن العالم.

سادسًا- في تلك الحرب الجديدة لا توجد أرضية محايدة.

فاعلون مختلفون

يتنوع الفاعلون المؤثرون في الحرب الجديدة، فبعضهم دول والآخر فاعلون من غير الدول (أفراد وتنظيمات)، نذكر منهم على سبيل المثال وليس الحصر ما يلي:

1-روسيا: لجأت موسكو إلى الإنترنت لتعويض تراجع قوتها العسكرية، وكداعم لها في الوقت ذاته. وتعد وفقًا للكتاب الدولة الأكثر تقدمًا في هذا الشكل الجديد من الحرب وذات نفوذ سياسي. فقد تدخلت في الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 2016، حسب العديد من التقارير الاستخباراتية الأمريكية والغربية، حيث تشير إلى أنها استخدمت مزيجًا من المعلومات الخاصة وتقنيات التسويق الرقمي الجديدة لإشعال احتجاجات في العالم الحقيقي، وتوجيه العديد من دورات الأخبار الأمريكية، والتأثير على الناخبين. ويزعم الكتاب أن روسيا تمكنت من التسلل إلى المجتمع الأمريكي بشكل كامل من خلال استخدام وسائل الإنترنت فقط.

وعلى الصعيد الدولي، أثارت الهجمات المعلوماتية الروسية المشاعر المعادية لحلف الناتو في ألمانيا، كما دشنت موسكو حملات على الإنترنت لتأجيج الكراهية السياسية للأقليات الروسية العرقية في إستونيا ولاتفيا وليتوانيا، على حد زعم الكاتبين.

2- إسرائيل: يشير الكتاب إلى أنها تستخدم وسائل التواصل الاجتماعي لتعزيز صورة أكثر إيجابية عن نفسها عبر الإنترنت، ويظهر ذلك جليًّا في حربها على غزة عام 2012.

3- دونالد ترامب: حيث أدرك قوة وسائل الإعلام الاجتماعية، وفقًا للكتاب، أكثر من أي رئيس أمريكي آخر. فعلى سبيل المثال، فقد وجد معهد أكسفورد للإنترنت (Oxford Internet Institute) أنه على الرغم من إقصاء الناخبين اللاتينيين في الحملة الانتخابية لترامب، إلا أنه كان يملك بعض برامج تويتر الوهمية التي سهّلت دعمهم له. كما ساعدت البوتات (روبوتات الإنترنت، وهي برامج تقوم بمهام تلقائية على الإنترنت) التي يستخدمها في جذب اهتمام الصحفيين والمانحين من جميع أنحاء البلاد.

وعلاوة على ذلك، حصل “ترامب” على مساعدة شركة كامبريدج أناليتيكا، وهي شركة خاصة تعمل على الجمع بين استخراج البيانات وتحليلها ثم الوصول لاستنتاجات عند العمليات الانتخابية، فضلًا عن مساعدات عملاء روس على الإنترنت يتظاهرون بأنهم ناخبون أمريكيون على فيسبوك، وتويتر. وحتى بعد توليه الرئاسة، استمر “ترامب” في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لتعبئة قاعدة صغيرة ولامعة بشدة. وفي المقابل، تستمر مراكزه في تضخيم نظريات المؤامرة القومية، ومهاجمة الصحافة.

4- تنظيم “داعش” الإرهابي: وكان مستخدمًا فعالًا جدًّا لبرامج البوتات، إذ يوظفها لنشر دعايته على تويتر باللغة العربية. وفي عام 2014، حاز على اهتمام دولي في إطار تزايد وجوده على تويتر من خلال عدد من الهاشتاجات، وبث عملياته وانتصاراته المزعومة.

ماذا نفعل؟

يقدم الكتاب عددًا من الحلول لتقويض هذا الشكل الجديد من الحرب والتوعية بخطورته على عدة مستويات:

أولًا- على مستوى الحكومات: يرى المؤلفان أن الخطوة الأولى بالنسبة للحكومات للحد من آثار هذه الحروب الجديدة تتمثل في إدراك أهمية وخطورة المعركة الجديدة، وأخذها على محمل الجد. فمثلما تم الاعتراف بتهديدات الحرب السيبرانية ومن ثم تنظيمها وإعدادها خلال العقدين الماضيين، كذلك يجب معالجة هذه الجبهة الجديدة للحرب.

ويشير الكتاب إلى أن هناك نماذج استجابة مختلفة لدول تجاوزت عملية إعادة التنظيم العسكرية إلى العمل على تحصين مجتمعاتها ضد تهديدات المعلومات، ومن بينها فنلندا وإستونيا ولاتفيا وليتوانيا والسويد، وكلها تواجه وابلًا من الهجمات المعلوماتية الروسية. وتشمل جهودهم في مجال الوقاية برامج تثقيف المواطنين، ومراقبة حملات التضليل الأجنبية، وحمايات الانتخابات، والشفافية القسرية لأنشطة الحملات السياسية، وسن قوانين للحد من تأثير المواد المضللة.

ويشدد الكاتبان على ضرورة العمل على توظيف وسائل الإعلام الاجتماعي لزيادة الوعي العام، وتتبع احتياجات المواطنين، وحتى جمع المقترحات حول الإنفاق العام. وتعد سويسرا مثالًا بارزًا، إذ استخدمت الشبكات الاجتماعية للسماح برقمنة التماسات المواطنين وإدخال المبادرات عبر الإنترنت في مداولاتها حول السياسات.

ثانيًا- على مستوى شركات التواصل الاجتماعي: يرى الكاتبان أن دور تلك المؤسسات لا يقل أهمية عن دور الحكومات، فيجب أن تفكر بشكل استباقي في التداعيات السياسية والاجتماعية والأخلاقية لخدماتها، خاصة وأنه لم تحاول أي شركة منهم معالجة العلل التي ظهرت على شبكاته، وكان موظفوها يتجاهلون باستمرار الشكاوى والإنذارات الموجّهة لهم حول وجود منشورات تتراوح بين بث الكراهية والتحرش. وبالمثل، عندما أثار بعض الباحثين مخاوفهم بشأن المشاكل الناشئة كحملات التضليل الروسية خلال انتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2016، رفضت تلك الشركات التعامل مع تلك المخاوف.

ثالثًا- على مستوى الفرد: وفقًا للمؤلفين، يجب أن يعترف المستخدمون العاديون بمسئوليتهم كمواطنين و”مقاتلين” في الحرب الجديدة، وضرورة الوعي بما يشاركه الفرد، وما ينشره، وما يتفاعل معه. فالأفراد العاديون لا يحددون فقط الدور الذي يلعبونه، ولكن تكمن قوتهم في تلك الحرب من خلال التأثير أيضا على ما يعرفه الآخرون ويفعلونه.

نقلا عن: مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock