منوعات

صلاح الدين حافظ.. القابض على جمر حرية الصحافة

“القبضة الحديدية لا تخنق الكلمة الحرة، والقهر باسم القانون أو من خارج سلطة القانون لا يقضي على حرية الصحافة، والاتهامات والمحاكمات والعقوبات لن توقف المطالبة بالحقوق والحريات ولن تستطيع إسباغ التقديس على ما هو غير مقدس ولا إضفاء التحريم على ما هو غير محرم”.

هكذا ختم الكاتب الصحفي الكبير صلاح الدين حافظ كتابه الأخير “تحريم السياسة وتجريم الصحافة”، الذي نشر قبل وفاته بشهور عام 2008، ناعيا فيه حال صاحبة الجلالة التي تربص بها المتربصون، ومورست ضدها كل صنوف الوصاية والحسبة.

بدا حافظ في نهاية مشواره الطويل في بلاط المهنة متعبا موجوعا، ورغم معاركه التي امتدت لنحو نصف قرن في الدفاع والزود عن حرية الرأي والتعبير واستقلال الصحافة، تساءل كاتبنا الكبير: في مثل هذا المناخ الخانق، كيف تتنفس؟ وكيف تكتب؟ ولمن؟ فما جدوى الكتابة، ولماذا تحلم بالحرية وتتطلع إلى الديمقراطية، بينما صخب الدفوف من حولك يصم الآذان ويشل الأعصاب ويوجع القلب، قلب الوطن وقلب الإنسان؟.

الدائرة الجهنمية

لكنه استدرك حتى لا يفهم من كلماته أنه يدعو إلى الاستسلام، فقال: رغم كل ذلك، لا أظن أن الدائرة الجهنمية ستظل دائرة إلى الأبد، فحتى الجبال تزول والأرض تباد والناس تموت، ويأتي خلق جديد بفكر جديد وسلوك مغاير ونهوض مختلف يشق صدر الزمان، بحثا عن وطن الحرية وعن حرية الوطن، وعليك أن تختار وتحدد موقفك، إما عبداً في الدائرة الجهنمية، وإما سيداً في وطن الحرية، والقابض على شرفه كالقابض على الجمر، خصوصا في زمن تصطك فيه المصالح وتصطرع الثروات بأكثر مما تفعل الأفكار والرؤى والإرادات، وأمامك أن تختار المكان والمكانة.

عاش صلاح الدين حافظ (1938-2008) عمره، مدافعا عن استقلال الصحافة وحرية الصحفيين وحق الجمهور في المعرفة، رافضا عنت السلطة ومحاولاتها حصار حرية الرأي والتعبير سواء بقوانين مكبلة أو بالبطش وقوة الأمر الواقع، مؤمنا بأن الديمقراطية هي السبيل الأمثل لبناء وطن حر، داعيا أبناء المهنة إلى مقاومة محاولات التقييد والحصار.

حرية الهامش

في سبتمبر من عام 2007 صدر حكم بحبس أربعة رؤساء تحرير صحف خاصة، هم إبراهيم عيسى “الدستور”، ووائل الابراشي “صوت الأمة”، وعادل حمودة “الفجر”، وعبدالحليم قنديل “الكرامة” لمدة سنة مع الشغل والغرامة 20 ألف جنيه لكل منهم بتهمة نشر أخبار كاذبة عن رموز الحزب الوطني وسب وقذف الرئيس حسني مبارك، حينها كتب صلاح الدين حافظ مقالا تحت عنوان “حقيقة العاصفة على الصحافة هذه الأيام”، يحذر فيه من الهجمة التي تستهدف حرية الرأي والتعبير ويطالب فيه الصحفيين بالتحلي بأكبر قدر من الحذر والمسئولية “حتى لا نسمح للطرف المعادي بشن الهجوم الهادف إلى كبت الحرية، أو إلى استدراج الصحف والصحفيين إلى مواقع الزلل ومواضع الخطأ لكي يدفعونهم إلى المحاكم”.

إبراهيم عيسى                    وائل الإبراشي                 عادل حمودة                   عبد الحليم قنديل

قال حافظ في مقاله الذي نشر في ظل هامش حرية يتحسر عليه البعض الآن: “هذه عاصفة عاتية على الصحافة، تحمل من الغبار الكثير، مثلما تحمل نذر شر مستطير، يهدد هامش حرية الرأي والتعبير الذي تتمتع به الصحافة المصرية على مدى السنوات الأخيرة، عاصفة ليست الأولى ولن تكون الأخيرة، لكننا تعودنا على هبوطها كل بضع سنوات، وبالمقابل تعودنا الاستعداد لمقابلتها ومقاومتها، ونظن أن هذه المواجهات لن تتوقف طالما أن المجتمع يتطلع إلى تعميق وتوسيع هامش حرية الصحافة”، مشددا على أن حرية الصحافة والرأي والتعبير هي مقدمة الحريات الديمقراطية الأخرى، “وبالتالي لا نقبل انتقاصا أو اعتداء على الهامش المحدود لحرية الصحافة الحالي مهما كان الثمن والتضحيات”.

إفساد متبادل

في يوليو من عام 2007، كتب صلاح الدين حافظ مقالا يصلح للنشر في كل أزمنة التسلط، فمن يقرأه الآن لا يمكن أن يميز أنه كُتب قبل 10 سنوات، وتحت عنوان “الإفساد المتبادل بين السياسة والصحافة” قال حافظ: طغت السياسة بمعناها الرسمي على الصحافة، واحتكر السياسيون مقاعد الصحفيين، ففشلت السياسة في تلميع وجهها، وفشلت الصحافة في أداء رسالتها، وكانت الضحية هي الحرية، التي بسبب نقصها أو غيابها، تراجع الاثنان، السياسة والصحافة، على نحو ما نرى ونعرف، في ظل حالة ملتبسة تبدو شديدة الخطورة، تترجم فكرة السلطة المطلقة”.

وفي ذات الشهر –يوليو 2007- ناقش الكاتب الكبير أزمة هجر الناس للصحافة، وهي أزمة لا تزال قائمة، وكتب تحت عنوان “الناس والصحافة والثقة المفقودة”: “كثير من ناس هذه الأيام فقد الثقة، بل وفقد الحب لصحافة هذه الأيام، وكثير من الصحافة والصحفيين صاروا لا يرتبطون بالناس ومشاغلهم، نعني ناس الغالبية الساحقة، بل أصبحوا يرتبطون بمشاغل ومشكلات ناس الطبقات العالية، وخصوصا طبقات الحكم وشرائح النظام الرسمي، والدوائر المحيطة والمستفيدة، خصوصا رجال المال والأعمال”.

وأضاف: “الحرية هي روح الصحافة، ومن دونها تصبح الصحف أوراقا جافة ونشرات مجمدة، يسأم المواطن من مجرد النظر إلى صفحاتها، خصوصا إن كانت معبأة بأخبار الحكم والحكام، مدمجة بمقالات الممالأة والنفاق”، مشددا على أن العلاج الناجع ليس بفرض القيود وكبت حرية الصحافة والرأي والتعبير، ولكن بمزيد من الحرية عبر إصلاح ديمقراطي واسع.

معارك نقابية

عن معاركه المهنية والنقابية في سبيل الدفاع عن استقلال الصحافة، يقول يحيى قلاش نقيب الصحفيين السابق: “أثناء أزمة القانون 93 لسنة 1995 الذي استهدف تقييد حرية الصحافة لم يتخلف حافظ مرة واحدة عن حضور الجمعيات العمومية والمشاركة في أعمال لجان واجتماعات كثيرة استهدفت الخروج من هذه الأزمة، ورأس المؤتمر العام الثالث في سبتمبر من العام نفسه الذي قررته الجمعية العمومية لوضع إطار لمشروع قانون جديد تخوض به النقابة معركتها لإلغاء القانون 93”.

يحيى قلاش

في أحد الاجتماعات بين مجلس النقابة ونواب مجلس الشورى من الصحفيين للتشاور حول مشروع النقابة وكان يحتوي على مادة تطالب بعدم جواز فصل الصحفي إلا بعد إخطار النقابة بمبررات الفصل ثم تقوم بدور التوفيق فإذا لم يصل إلى نتيجة تقوم بدور التحكيم الذي يكون بمثابة حكم ملزم لأطرافه ويجوز الطعن عليه استئنافيا، وكان من بين المدعوين الدكتور رفعت السعيد رئيس تحرير جريدة “الأهالي” لسان حال حزب التجمع اليساري، الذي أبدى اعتراضا شديدا على وجود هذه المادة وطالب بحذفها، وقال: “كيف تكبلني النقابة فلا أستطيع أن أفصل صحفيا لا يعمل؟”.. هنا انفعل صلاح الدين حافظ في مرافعة رائعة مغلفة بالسخرية والمرارة ورد متهكما: “انكم لم تتوقفوا عن أن تعطونا دروسا في الاشتراكية وحقوق العمال وضمانات علاقات العمل، ثم عندما نترجمها في تشريع قانوني، أنت الذي تغضب وتطالب بحذفها!”. يتذكر قلاش.

رفعت السعيد

ظل حافظ في مقدمة الأصوات المطالبة بإلغاء ترسانة القوانين المقيدة للحريات، وعندما عقدت جمعية عمومية في مارس 2006 للمطالبة بإلغاء الحبس في قضايا النشر، شارك في كل أعمال واجتماعات هذه الجمعية وخرج مرتين رغم شدة مرضه، في تظاهرتين أمام مجلس الشعب وسط جمع من النقابيين والصحفيين وأنصار حرية التعبير كي يخرج التشريع ملبيا مطالبهم.

ومن أهم القضايا التي توقف عندها صلاح الدين حافظ حظر التطبيع مع العدو الصهيوني وظل خلال توليه موقع الأمين العام لاتحاد الصحفيين العرب منذ عام ١٩٩٦ وحتي رحيله عام ٢٠٠٨ يؤكد في كل القرارات الصادرة عن الاتحاد علي حظر التطبيع و تكليف النقابات العربية باتخاذ الاجراءات التأديبية ضد أي صحفي يخرق هذا القرار واخطار الاتحاد بنتائج التحقيق.

عاشق الصحافة

ولد صلاح الدين حافظ بقرية العقيلة التابعة لمركز العدوة بمحافظة المنيا عام 1938، وتمرد على محاولات أسرته لإلحاقه بكلية الشرطة أو كلية الحقوق ليصبح ضابطا أو وكيلا للنائب العام، واختار كلية الآداب ليصبح صحفيا كما أراد لتجربته أن تكون، وتخرج من قسم الصحافة عام 1960.

عمل حافظ عقب تخرجه في صحف “الأخبار”، و”التعاون”، و”الشعب”، ثم التحق بـ “الأهرام” عام 1965، ليبني معها مجده الصحفي حتى وفاته في عام 2008، كما عمل مديرا لتحرير جريدة الراية القطرية 1981- 1984، وأستاذا محاضرا للصحافة في جامعة قطر وجامعة القاهرة.

رغم مهنيته العالية وشهرته كأحد “صنايعية” الصحافة، لم يصل حافظ إلى رئاسة تحرير “الأهرام”، فالوصول إلى هذا الموقع قرار سياسي، على حد تعبيره: الصحافة في مصر ملكيتها للدولة، واختيار رؤساء التحرير قرار سياسي، وتجربتي وكتاباتي متوصلنيش أكون رئيس تحرير مختار بقرار سياسي.

 تعرض حافظ للفصل من “الأهرام” في عهد السادات مرتين، الأولى عام 1971، والثانية عام 1981، لكنه استطاع أن يعبر عن ما يراه في السياسة والصحافة وعلاقتهما ببعضهما البعض بما يقرب 12 مؤلفًا، أبرزها “تزييف الوعي”، و”أحزان حرية الصحافة”، و”صدمة الديمقراطية”.

بشر صلاح الدين حافظ بخروج الناس في ثورة غضب في حال استمرت حالة انسداد الأفق السياسي وتهميش الطبقات الفقيرة وإخراجها من المعادلة، وهو ما حدث بعد رحيله بنحو عامين: “الأفكار التي زرعتها البيروقراطية المصرية بأن شعب مصر مهادن ومناور وهادئ ومستكين ولن تقوم له قائمة، هي أفكار غير صحيحة لأن مثل هذه الحركات وصلت إلي القري البعيدة، وأنا فلاح وابن فلاحين ومرتبط بالريف المصري وعلي دراية كاملة به وبالذهنية القروية، وأعرف ما يحدث في الريف، وأؤكد أن هناك خطراً حقيقيًا قادمًا إلي مصر إن لم تعتدل فيه”.

أرسل مقاله الأخير لـ”الأهرام”، “نحن وأوباما.. هل سيغير أم سنتغير”، ونشر في 12 نوفمبر 2008، ويرحل بعدها بأيام في 16 نوفمبر، إثر إصابته بالسرطان.

صورة الغلاف بريشة الفنان سعد الدين شحاتة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock