رؤى

الصوفية والسلف.. جذور الخلاف ومآلات الصراع ( 4)

اعتمد المتصوفة التأويل في التعبير عن أحوالهم ومواجيدهم، ومالوا للرمز في ستر كشوفهم ومشاهداتهم، فأبدعوا لغتهم الخاصة التي تبقي ثمار تجاربهم حكرا على من ذاق وكابد وعرف. عبر المتصوفة عن الحضرة الإلهية بأسماء توحي بالشاعرية والعطف والحنين، كهند وسلمى وليلي، لكن هذا لم يمنع بعضهم من إطلاق عبارات أثارت غيظ وحنق الفقهاء عموما والحنابلة (أو من أسموا أنفسهم بـ”السلف”) على وجه الخصوص، خاصة تلك المعاني التي تندرج تحت وصف “الشطحات”، والتي ترد عندما تفوق التجربة أو الحالة التي يكابدها الصوفي القدرة على الكتمان، أو تضيق مفردات اللغة بحمل المعاني. ويحمل لنا التاريخ بعضا من تلك الشطحات، ومنها قول الحلاج: “ما في الجبة سوى الله”، وقول البسطامي: “خضت بحرا وقف الأنبياء على شاطئه”، وغيرهم كثيرون، من لم تحل خصوصية التجربة والتعبير دون اتهام الحنابلة لهم بالمروق والزندقة واسقاط التكاليف.

سيدة تمدح النبي بمسجد السيدة زينب

إذا كان الإمام أحمد بن حنبل لم يخلو من مسحة صوفية وعلاقة ببعض أئمة التصوف المعاصرين لزمنه مع إقراره بعض المسائل الهامة بالنسبة للمتصوفة كالتبرك والاستغاثة والتوسل والولاية، فإن تلامذته قد توسعوا في انكار ممارسات المتصوفة ومهاجمتهم، وكان على رأس هؤلاء أبو الفرج بن الجوزي (510ه-592ه) صاحب كتاب (تلبيس إبليس) الذي يعد اهم مرجع للحركة السلفية المعاصرة في مهاجمة ممارسات الصوفية وتصنيفها، حيث يذهب إلى اعتبار العديد من الممارسات الصوفية كالحضرات والذكر وزيارة الصالحين والتبرك والتوسل وغيرها من الفتن التي يوقع فيها الشيطان العباد ظنا منهم انهم يتقربون بذلك إلى الله وما هي إلا من مدخلات إبليس أو بالأحرى تلابيسه.

وإذا كان الإمام ابن تيمية لم يخلو كذلك من مسحة صوفيه أخذها عن أستاذه وشيخه عبدالقادر الجيلاني الإمام الصوفي وأحد الأقطاب الأربعة عند المتصوفة، والذي يعود إليه الفضل في إحياء المذهب الحنبلي بعدما تبناه كمذهب فقهي إثر رؤية منامية رأى فيها الإمام إبن حنبل يدعوه لاعتناق مذهبه الفقهي، فاستيقظ وقد أعلن تبنيه للمذهب الحنبلي، وكذلك فعل قرابة السبعين ألف من مريديه. ولقد كتب ابن تيمية كتابه (الصوفية والفقراء)، وقدم مفهوم للولاية يكاد يتطابق مع مفهوم الجيلاني للولاية، وأثنى على كثير من المتقدمين من المتصوفة كالجنيد والشبلي، وسهل التستري، وأبو سليمان الداراني، لكنه سرعان ما انقلب لمهاجمتهم في ضراوة، وقسوة وقد فرق ما بين من اعتبرهم أولياء للرحمن ومن اعتبرهم أولياء للشيطان.

تناول ابن تيمية مفاهيم المتصوفة ومواجيدهم وذكرهم وأحوالهم بمقياس الشرع الذي لا يتعدى في نظره ما ورد من الأثر وما يفصح به ظاهر النص، فأنكر عليهم ذكرهم وخلواتهم وسماعهم (الحضرة) والتوسل والاستغاثة والنذر وزيارة قبور الصالحين بغرض التبرك، بل وزيارة قبر النبي نفسه لهذا الغرض، وحتى مفاهيمهم عن الحب والعبودية، وعلاقة الشيخ بالمريد التي وصلت في نظره حد الشرك.

اعتمدت السلفية الأخذ بظاهر النص وإنكار العمل بالرأي أو التعويل على العقل والتأويل حتى لقد قال أحدهم:

دين النبي محمد آثار                   نعم المطية للفتى الأخبار

لا تخدعن عن الحديث وأهله         فالرأي ليل والحديث نهار

 وقد أوقعهم ذلك في شًراك وفخاخ  النصوص حين لم يسعفهم التأويل في تلك الآيات المتعلقة بقضايا الذات والصفات، فوقعوا في نظر المتصوفة وغيرهم من أهل السنة والجماعة في ما عرف بالتشبيه والتجسيم، إذ رفضوا تأويل بعض الآيات القرآنية كقوله تعالى: (يد الله فوق أيديهم)، و(الرحمن على العرش استوى)، فقالوا بأن لله يد وإن لم تكن كأيدينا ورفضوا تحميلها على معنى القدرة، واعتبروا أن لله عرشا في السماء وأن الذات الإلهية تستوي عليه دون كيفية وأن الله يسكن السماء، وهي أمور استقبحت أكبر استقباح حتى من بعض فقهاء الحنابلة أنفسهم حتى قال ابن تميمي الحنبلي: لقد شان أبو يعلي بن الفراء  الحنابلة شينا لا يغسله ماء الدهر.

كانت مسايرة ابن تيمية لمذهب أبو يعلي بن الفراء في قضايا الصفات سببا رئيسيا فيما تعرض له الرجل من محن جعلته يقضي أغلب سنوات عمره بين جدران السجون، وهي المرحلة التي خاض فيها ابن تيمية العديد من المناظرات مع علماء المتصوفة وفقهاءهم في القاهرة التي بلغ فيها انتشار التصوف الطرقي مداه، وفي إطارها أورد الكاتب عبدالرحمن الشرقاوي في روايته التاريخية (ابن تيمية الفقيه المعذب) قصة مناظرته مع صاحب الحكم ابن عطاء الله السكندري، وإن كان لا يتوفر بين يدينا ما يؤكد حقيقة هذا اللقاء، ولا ما يدعم إجراء تلك المناظرة التي أقر فيها ابن تيمية بصواب رأي ابن عطاء، وشُد بموجبها إلى سجن القلعة.

وإذا كان المتصوفة طوال تلك المراحل التاريخية في موقع المتهم الذي يلجأ للتواري خلف الرمزية في التعبير، فإنهم انتقلوا لاحقا من موقع الدفاع إلى موقع الهجوم حين شنوا على مذهب المعطلة والمشبهة والمجسمة (السلفيين) حربا لا هوادة فيها كاد أن يندثر فيها مذهب السلف إلى غير نهاية، غير أن انبعاث ثالث للسلفية مع الحركة الوهابية أتاح لها أن تهب من رقادها مجددا مسلحة بأفكار ابن تيمية وابن القيم الجوزية على وجه الخصوص.

انطلاق الحركة الوهابية –مدعومة من آل سعود الحالمين بإنشاء دولتهم- وفر لها غطاء وأيديولوجية سياسية توافق مذهبهم في التنكر للولاية وآل البيت، خاصة مع تطلع آل سعود لإزاحة غرمائهم السياسيين في الحجاز ممن يتسلحون بنسبهم إلى آل البيت، وهكذا استيقظت النزعة السلفية الجاحدة لكل ما يتعلق بالولاية فكرا وممارسة، فهدمت أضرحة الأولياء والصالحين، وحٌرمت الكثير من الطقوس والممارسات الصوفية بحجة تطهير العقيدة، ومواجهة البدع والخرافات، فاستبيحت دماء المخالفين، وانطلقت شهوات التكفير.

وأسهم تدفق أموال البترول بعد قيام الدولة السعودية الثالثة في تعزيز قدرة الوهابية ومن أخذ بنهجها على ملاحقة التصوف، وزاد زخم تلك المواجهة مع بدء ظهور حركات الإسلام السياسي في عدد من البلدان الإسلامية وانتشارها لاحقا في سائر  بقاع العالم الإسلامي من الصين شرقا وحتى بلدان المغرب العربي، وهي التي وفرت لاحقا البيئة الحاضنة لكل حركات العنف والإرهاب باسم الإسلام التي أفزعت العالم من شرقه إلى غربه.

وربما كان ذلك وراء سعي الدولة السعودية أخيرا لغسل يدها من الانتماء إلى الحركة الوهابية بعد أن باتت عنوانا لكل ما يشهده العالم من إرهاب وتطرف، ومن شأن ذلك بالطبع أن يحرم تلك التيارات التي سارت على نهج الوهابية في العالم من دعم مالي وسياسي هائل طالما اعتمدت عليه في السابق. وفي مواجهة ذلك المشهد المضطرب في زمننا الراهن، فإن ثمة فرص متزايدة لاستدعاء نموذج الإسلام الصوفي لإعادة التوازن إلى المشهد، خاصة بعدما أثبتت التجربة قدرة الإسلام الصوفي على صناعة نموذج حضاري أكثر ملاءمة لروح العصر، لما يمتاز به التصوف من مرونة وتسامح وقدرة على استيعاب الآخر الديني والثقافي.

بلال مؤمن

كاتب و محرر مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock