منوعات

الاستبداد في ثلاثية نجيب محفوظ.. سلطة أبوية قاهرة

“دعوت للثورة وأنا دون السابعة، ذهبت ذات صباح إلى مدرستي الأولية محروسا بالخادمة، وجدنا المدرسة مغلقة والفراش يقول بصوت جهير: بسبب المظاهرات لا دراسة اليوم أيضا. غمرتني موجة من الفرح طارت بي إلى شاطئ السعادة، ومن صميم قلبي دعوت الله ان تدوم الثورة إلى الأبد”.. من أصداء السيرة الذاتية لنجيب محفوظ.

يحل ديسمبر، وتهل معه ذكرى ميلاد أديب العرب الأشهر، صاحب نوبل “نجيب محفوظ”، الاحتفال هذه المرة يأخذ مسارا جديدا عبر رسالة علمية عكفت على تتبع رؤى نجيب محفوظ للواقع الاجتماعي والسياسي المصري عبر رواياته العديدة، خاصة الثلاثية الشهيرة (بين القصرين، قصر الشوق، السكرية). سعت رسالة الباحثة وفاء السعيد التي نالت عنها درجة الماجستير قبل أيام من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة، إلى الخوض في تناول محفوظ لمعاناة المصريين من مظاهر الاستبداد في حياتهم، اجتماعيا وسياسيا، وكيف عبر عنه في انتاجه الأدبي، وكان هذا التساؤل محور الرسالة التي حملت عنوان “الظاهرة الاستبدادية في ثلاثية نجيب محفوظ”.

الباحثة وفاء السعيد

محورية المكان

تلفت الباحثة في دراستها إلى الأهمية المحورية للمكان في مجمل أعمال نجيب محفوظ عامة، والثلاثية خاصة، ما يعكس إيمانه بما للمكان من مكانة خاصة وسلطة عليا، تجلت في حرص محفوظ أن تحمل عناوين العديد من أعماله اسم مكان ما يرمز إلى مصر وأهلها. وركزت الرسالة على ثلاثية محفوظ باعتبارها عملا أدبيا واحدا، موضحة أنه نظرا لضخامة الرواية قام الناشر عبد الحميد جودة السحار، بنشرها على ثلاثة أجزاء كما عرفناها جميعا، يربط بينها ارتباط أسمائها بأحد أحياء القاهرة القديمة، وبالذات حي الجمالية الشهير الذي شهد مولد محفوظ في قاهرة المعز.

استندت الباحثة في دراستها على منهج التحليل الثقافي، وركزت على رصد مظاهر الاستبداد العائلي والاستبداد السياسي في الثلاثية، وارتباط جذوره بثقافة الاستبداد الأبوي السائدة في التراث الشعبي المصري، فالسلطة الأبوية كما ترصدها الباحثة هي المنبع الذي يغذي جذور الاستبداد في المجتمع.

استبداد مجتمعي

رصدت الباحثة مظاهر الاستبداد العائلي عبر التركيز على مظاهر قهر المرأة، ممثلة في شخصية الزوجة أمينة وابنتيها عائشة وخديجة، بما يفرضه عليهم رب الأسرة “السيد أحمد عبد الجواد” من احتجاب داخل جدران منزل الأسرة، وما يعكسه ذلك من نظره إلى جسد الأنثى باعتباره “تابوه” يتعين حجبه عن الأنظار ولا يحق لصاحبته الخروج للمجال العام، كما تجلى ذلك أيضا في ترتيب جلوس النساء إلى مائدة الطعام، فالأب يجلس أولا ثم الأبناء الذكور، وأخيرا يتم السماح بانضمام نساء الأسرة إلى المائدة. يكتمل رصد الباحثة لمظاهر الاستبداد العائلي، عبر رصد استبداد الأب على مجمل أبنائه سواء كانوا ذكورا او إناث، فالأب وفقا لتوصيف الباحثة “نصف إله”، وبالطبع فإن طاعته فرض على الأبناء.

ثورة أجيال

كما ترصد الباحثة في رسالتها مظاهر الاستبداد السياسي ممثلا في سلطة الاحتلال الإنجليزي وسلطة القصر. وهنا ترصد الرسالة تأثير أحداث ثورة 1919 على مجمل المجتمع المصري، والتي بدت وكأنها المفتاح السحري للتغلب على السلطة الأبوية، فالابن فهمي يتمرد على سلطة الأب ويخرج للمشاركة في الثورة، ومن ثم تخرج النساء أيضا للمشاركة بالثورة، حتى أن أول شهيدة بثورة 1919 كانت من النساء، ما مهد لخروج النساء للمجال العام والتحاق الفتيات بالجامعة، وتلفت الباحثة إلى شخصية سوسن حماد في السكرية، بوصفها نموذجا مختلفا للفتاة التي لا تبحث عن الزواج، في محاولة أولى لكسر الصورة النمطية للمرأة آنذاك.

تخلص الباحثة في دراستها إلى التأكيد على أن  المجتمع في حاجة دائما إلى ثورة اجتماعية موازية للثورة السياسية، فالعلاقة بين الاستبداد الاجتماعي والاستبداد السياسي هي علاقة دائرية، وكلاهما يرتبط وجوده بوجود الآخر، كما أن ثمة تلازم بين الاستبداد والمقاومة، فأينما شاع الاستبداد تنبت المقاومة، ودللت على ذلك بالمحاولات المستمرة لجيل الأبناء في الخروج على سلطة الأب، خاصة في الجزء الثاني والثالث (قصر الشوق، والسكرية) حيث تبدأ المقاومة وتأخذ في التجلي مع الأجيال الأصغر في الثلاثية.

رؤية مغايرة

وفي تعقيبها على ما أوردته الباحثة في رسالتها، انتقدت أستاذ العلوم السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية  الدكتورة نفيين مسعد اكتفاء الباحثة باعتماد منهج التحليل الثقافي في تفسير مظاهر الاستبداد المجتمعي حسبما ترصدها ثلاثية نجيب محفوظ، معتبرة أنه يمثل جانبا واحدا من جوانب دراسة الظاهرة، وكان يلزم عليها عدم إغفال منهج التحليل السياسي في رصد مظاهر الاستبداد وفقا لرؤية العلوم السياسية.

كما اعتبرت د. نيفين مسعد أن ما ذهبت إليه الباحثة من علاقة تلازم بين الاستبداد والمقاومة ليس صحيحا دائما، مدللة على ذلك بشخصية أمينة في الثلاثية، التي تجسد الخضوع التام للسيطرة دون أي محاولة منها للخروج عليها، وهو ما يظهر أيضا في نماذج معاصرة تجسدها حالة المرأة في الجماعات الإسلامية المتشددة، التي تخضع لإرادة الزوج والجماعة التي تنتمي إليها باعتبارها من طاعة لله، إلى حد تفجير نفسها في عمليات إرهابية امتثالا لذلك النهج الذي يجسد نظرة دونية للمرأة تخالف تعاليم الدين السمحة.

لجنة مناقشة الرسالة

وبدوره لفت عضو لجنة مناقشة الرسالة، أستاذ الأدب العربي بكلية الآداب جامعة القاهرة الدكتور حسين حمودة إلى غياب التحليل التاريخي في تناول الباحثة لمظاهر الاستبداد العائلي والسياسي، معتبرا أن ما أورده نجيب محفوظ في روايته في واقعة نفي الزوجة أمينه من بيتها على أثر خروجها لزيارة الحسين، جاء مواكبا لنفي سعد زغلول، ما يطرح التساؤل حول كيف يمكن للمبدع أن يتحايل في أعماله على سلطة الرقابة.

إلا أن أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة الدكتورة نادية أبو غازي، وهي المشرفة على الرسالة، نوهت بجهد الباحثة، لافتة إلى الصعوبات التي ترتبط بطرح هذه النوعية من الموضوعات داخل حقل العلوم السياسية، والتي اعتبرتها تمثل حجر الزاوية في تطوير آليات البحث العلمي في الجامعات المصرية عامة، لما تتطلب من جهد مضاعف من الباحث في المزج بين أكثر من تخصص في آن واحد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock