منوعات

بيوت قنا القديمة.. أقفال وراءها أسرار

شاءت الحظوظ الطيبة أن أولد في درب النقيب بمدينة قنا وأنشأ فيه (تقسيم النقيب حاليا) وهو واحد من أقدم الشوارع بالمدينة، ما لم يكن الأقدم، تحيط به وتفضي إليه شوارع منخفضة عنه، فمن الغرب سوق الساحل الذي هو واحد من أكبر الأسواق الشعبية في المدينة ومن الشرق منطقة الصهريج وهي سوق الأقمشة والألومونيوم والسمك وحبوب الغلال ومحل تواجد العدد الأكبر من السادة الأشراف بالمدينة.

وتتداخل هناك منطقة الحلوى العريقة وفيها البيت القديم للشيخ الجليل الراحل محمود عبد الوهاب الأبنودي والد الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي (عليهما رحمات الله) وبيت أسرة الشاعر الراحل عبد الرحيم منصور أيضا وامتدادها مزلقان المحطة ومن بعده مشهد ولي الله الصالح عبد الرحيم القنائي، وبمقدمتها من الأول منطقة الأنصاري الصوفية الوديعة التي فيها مقام الشيخ الأنصاري ومقام الشيخ عامر خارج زاويته المشهورة، وبها تقام حلقات الذكر ببعض بيوتها.

ومن الشمال السوق الفوقاني، السوق الكبير للخضار والطيور والملوحة والبرسيم والنبق والدوم والفواكه، ويكتظ بالقادمات من القرى فجرا بالجبن الأبيض الطري المصنوع يدويا من ألبان الأبقار (يسمونه في قنا بالأخضر) والمش والبيض والخبز الشمسي، ويتخلله جامع المغربي الأثري.

يسلم السوق، من بعض تفريعاته، إلى منطقة الحمام الأثري المخصص للرجال في الزمن القديم، ثم منطقة سيدي عمر، وهي منطقة مدارس، ويعد المسجد الذي باسم المنطقة أثرا من الآثار حتى أنهم لما جددوه حافظوا على مئذنته كما هي، ومن الجنوب تنتشر محال المنجدين بالمدينة. وبمسافة إلى الشرق، منطقة سفينة العريقة ذات التاريخ الحافل في التحام الثقافات ووئامها؛ فقد حوت مسيحيين ومسلمين جاورهم يهود في زمنها البعيد، كما كانت منطقة قصور وفلل، تميزت مبانيها بالطرز الأوروبية والإسلامية، وقد خلت الآن من المباني القديمة، وظل المسيحيون أكثر سكانها، وظلت صبغتها التجارية قائمة.

على الدوام بقيت تلك المناطق كلها مطمع الباحثين عن الغنى السريع في قنا؛ فالشائع أنها مناطق تضم أراضيها آثارا فرعونية وكنوزا ترجع إلى عهود سحيقة.

علو درب النقيب أنقذه من سيل 1954 العرم الذي أهلك صورة الحياة في قنا بفترته؛ فالمياه لم تستطع الصعود إليه، هو الذي لا وصول إليه إلا بركوب الدحاريج الأرضية من جميع الجوانب.

يعود اسم “النقيب” إلى نقيب السيد عبد الرحيم القنائي الذي كان يسكن الشارع هو وأسرته واعتاد الخروج بحصانه في الليلة الختامية لمولد السيد بمنتصف شعبان يصاحبه عمدة قنا وعمدة الأشراف، يحملون “التوب” إلى مقام القنائي في جو احتفالي مهيب.. وقد ورث منه الطقس بنوه وأحفاده، أشهرهم اللواء عبده النقيب الذي كان بيته الواسع بالشارع مضيفة كبرى للأكابر والصالحين، وظل الاحتفال قائما حتى أواخر السبعينيات من القرن الفائت، إلى أن وقعت خلافات بين القبائل بشأنه؛ فكل قبيلة رأت نفسها الأحق بالحصان والتوب من الأخرى وادعت الانتساب الشريف، ووجدت الحكومة الصراع آخذا في التصاعد وله أخطاره؛ فرفعت يدها عن رعاية المشهد وطلبت إيقاف العرض، وقد كان.. لكن بقي موثقا في ضمائر الأجيال الأقدم وفي الفوتوغرافيا التي يمتلكها عشاق النوادر.

الحصان الأبيض العفي كان يخرج من بيت النقيب، في ليلته المرتقبة، وسط الحشود الكثيفة، وقد أسعدتني الأيام برؤيته لسنوات متتاليات في طفولتي بمنتصف السبعينيات، يخرج زاهيا شاهقا، بحضور القيادات الشعبية والتنفيذية بقنا، من فوقه اللواء عبده النقيب، لواء الشرطة المستقيل، وحوله بعض أهله بأحصنتهم السمراء، متجها إلى مقام السيد عابرا منطقة الصهريج، تحاصره المشاعل النارية من كل ناحية، وتتقدمه فرقة المزيكات الشعبية بزيها الأخاذ، ويملأ المكان بامتداده باعة الحلوى والبمب والصواريخ، وصياح الفتية والفتيات وألعابهم، وزغاريد النساء من الشبابيك والبلكونات، ولمعة أعين الكبار الحالمة بمكانة النقيب الرفيعة..

تتميز البيوت القديمة بمنطقة النقيب والمناطق الملاصقة والمجاورة بانتمائها إلى عصور أسبق شكلا وموضوعا؛ فبناؤها من الطوب اللبن وقليلا للغاية من الطوب المحروق، وتتنوع طرزها من حيث الشكل ما بين الغربي الخالص لا سيما الإيطالي وبين الإسلامي خصوصا العثماني، واسعة صحونها من الداخل سعة لافتة، وسقوفها عاليات لا تخلو غالبا من الرسوم الزيتية والعروق الخشبية الداعمة للبناء الطيني، ومطابخها فسيحة، وحماماتها البلدية جيدة التهوية ووافرة، وشرفها الخشبية “الترسينات” باذخة وقد تتعدد بحسب المواقع، وغرفها كثيرة لا تقل عن الأربع أو الخمس للشقة الواحدة التي في البيت الكبير الذي تسكنه عائلة واحدة معروفة بالاسم والصفة، ويحمل بابه الخشبي الضخم سقاطة خشبية للإغلاق، ويحمل مطرقة حديدية للدق عليها حين الزيارة تنبيها للسكان، ويحمل موضعا بارزا للأقفال الكبيرة التي يحبذها الناس هناك لو غادروا بيوتهم لمدد طويلة.. ومن العادات القديمة المندثرة الطيبة أن كوة صغيرة كانت موجودة في الجدار الفاصل بين كل بيتين للتعاون والإغاثة عند اللزوم.

مع الوقت، هدم الناس بيوتهم القديمة التي تشقق معظمها ولم يعد الترميم نافعا فيها وأقاموا مكانها بيوتا على الإيقاعات الهندسية الجديدة، ولا بأس بالأمر طبعا، إلا أنه تم دائما بلا مراعاة لأثرية المباني وروعة زخارفها، وتم بلا إخطار لهيئة الآثار المظنون، للأسف، أنها لا تهتم أساسا بمثل هذه الشؤون تاركة تقديرها للأهالي أنفسهم.

بعض البيوت بقيت على أوضاعها البائسة بعد أن خلت من سكانها بالموت أو السفر أو الانتقال إلى أماكن أخرى أحسن وأنظف وأرقى، ويقال إن ورثتها أغلقوها بالأقفال وانصرفوا عنها رفعا لأثمانها بتقدم الزمن وليس إهمالا، وفي غياب النظرة العلمية يقال إنها صارت مساكن للأشباح والمتشردين أو مراتع خصبة للهوام والزواحف أو أغلفة للأسرار.. ومهما يكن من أمر، فإن أطلالها شاهدة على زمن عبقري مضى بكل حصيلته من المعارف والأذواق.

عبد الرحيم طايع

شاعر وكاتب مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock