منوعات

جاهين الذي أضحك وأبكى

حالة فنية متفردة، وثروة إنسانية قلما تتكرر، جمع  من المواهب في شخصه يغذي بعضه بعضا، وينساب متدفقا من إناء واحد عبر وسائل مختلفة، شعرا أو نثرا أو رسما أو تمثيلا، عٌرف بملاحته وخفة ظله، لكنه كان أقرب للضاحك الباكي الذي علم حقيقة الحياة فسخر منها، وخبر طبائع البشر فسخر من نقائصها، هو كالجاحظ في نقده اللاذع، وكالتوحيدي في مشاعره الناقمة، وكالمعري في إنسانيته المتأملة المتألمة.

قالوا الشقيق بيمص دم الشقيق

والناس مهياش ناس بحق وحقيق

شيلت قلبي وحطيت مكانه حجر

داب الحجر ورجعت قلبي رقيق

            عجبي

أمضى جاهين حياته حائرا تتنازعه مواهبه وملكاته المتعددة، اخلص لكل منها حينا، قطع شوطا في التمثيل حين ظهر مع المخرج صلاح أبو سيف في فيلم “لا وقت للحب” ثم في ثلاثة أفلام أخرى، بعدها اتجه للرسم ليعبر عن مكنونه، وأبدع في رسوم الكاريكاتير الساخرة التي برع فيها، قبل أن يدعوه الكاتب الكبير أحمد بهاء الدين لرسم الكاريكاتير على صفحات مجلة روزاليوسف، ثم أفرد بابا في الأهرام يرسم فيه جاهين، ويتابعه جمهوره العريض بشكل يومي.

كما أبدع جاهين في الكتابة للسينما، حين قدم سيناريوهات أفلام طويلة لعدد من الأفلام، منها: شفيقة ومتولي، خلي بالك من زوزو، أميرة حبي أنا، كما شارك في إنتاج عدد من الأفلام المهمة من بينها “عودة الابن الضال” للمخرج يوسف شاهين.

أبدع جاهين واشتهر كشاعر غنائي، وأنشدت معه الملايين أغنياته الوطنية الخالدة التي أرخت لثورة يوليو وأحلامها في تغيير واقع البلاد والمنطقة العربية من حولها، ومن أشهرها أغنيات: السد العالي، بالأحضان، صورة، حكاية شعب، وغيرها، فضلا عن أغنية “والله زمان يا سلاحي” التي وقع عليها اختيار الرئيس عبد الناصر لتكون النشيد الوطني للبلاد في حقبة المد الثوري.

كما اشتهر أيضا بأغنياته المرحة التي تعكس خفة ظله المعهودة، ولعل من أشهرها أغنية “الصهبجية” التي غناها الفنان محمود عبدالعزيز بفيلم “الكيت كات”،  وأغنية “أنا هنا يا ابن الحلال” التي غنتها الفنانة صباح، بالإضافة لأغاني وأوبريتات الفنانة سعاد حسني في ثلاثيتها الغنائية الشهيرة: شفيقة ومتولي، أميرة حبي أنا، خلي بالك من زوزو.

كان الشعر بالنسبة لجاهين محاولة للتعبير عن الذات وإفصاح عن رؤية وموقف خاص له من الحياة، وربما كان أبرز ما ميزه هو قدرته على التعبير عن معاني عميقة وفلسفة ورؤية وجودية في الكون والحياة في لغة سلسلة بسيطة تتناسب مع شخصيته التي ترفض التركيب والتعقيد، وتناسب الشرائح الواسعة من جمهوره المتنوع، وهل كان يمكن أن يتغافل المناضل اليساري ابن التجربة الناصرية عن انحيازه المتأصل للطبقة العريضة من أبناء الشعب؟

خرج ابن آدم من العدم قلت: ياه

 رجع ابن آدم للعدم قلت: ياه

 تراب بيحيا … وحي بيصير تراب

 الأصل هو الموت و الا الحياه؟

       عجبي

(خرج ابن آدم بصوت سيد مكاوي)

وإذا كان جاهين في رباعيته السابقة يكشف موضعا من مواضع العجب في أصول الخلق والحياة، فإنه كثيرا ما يلفت نظر قرائه في حديث مباشر مليء بالحيوية إلى أفضل السبل لمواجهة صعاب الحياة، والتحرر من ضغوط الواقع.

 يأسك وصبرك بين ايديك وانت حر

 تيأس ما تيأس الحياة راح تمر

 أنا دقت من ده ومن ده

 وعجبي

 لقيت الصبر مر وبرضه اليأس مر

            عجبي

السنوات الأخيرة من عمر جاهين جاءت معبرة عن حالة اليأس والقنوط التي تمكنت منه في نهايات مشواره وتنوعت أسبابها ما بين السياسة والأوضاع الاجتماعية المختلفة. الفتى الحالم الذي أدمت هزيمة 1967 قلبه الغض، لم يفلح في الإفلات من حالة الانكسار التي خلفتها الهزيمة رغم نشوة النصر بعد العبور في عام 1973، والذي عكست أغنياته وقتها استعادة قدر من احساسه بالرضا عما آلت إليه الأمور. لم تسكن الابتسامة الوجه الإنساني الصبوح الذي طالما أشرق بالفرح وعاش الحياة بحلوها ومرها، بخفة ظله وسخريته المعهودة، وبدا ذلك إيذانا بالرحيل لصاحب الوجه الصبوح الذي غادرنا في الحادي والعشرين من أبريل عام 1986.

 

بلال مؤمن

كاتب و محرر مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock