ثقافة

الشاعر والملياردير.. مبادرة ساويرس وحروب طواحين الهواء

كانت عبير العقاد ابنة شقيق الكاتب الكبير عباس العقاد تجلس أمامي في منزل عمها الأديب والمفكر الذي ملأ الدنيا و شغل الناس، وهي تروي محاولاتها مع بقية أفراد الاسرة لإنقاذ بيت العقاد في شارع سعد فريد بمصر الجديدة.

البيت الذي شهد أعظم صالون أدبي في القرن العشرين كان مترعا بالكتب والمهابة، الجدران علي وشك التصدع الكامل، المجلدات في كل مكان، أوراق تشكل جزءا نادرا من تاريخ مصر تكاد تكون مبعثرة. الفتاة تروي بأسي بالغ مناورات وزارة الثقافة في عهد فاروق حسني للحيلولة دون تحويل البيت إلى متحف يليق باسم الكاتب العظيم، رغم أن هذا الحوار كان منذ أكثر من عشرين عاما، إلا أن البيت لم ينقذ والأوراق زوت ولم يحدث جديد سوي أن بيت العقاد في أسوان، الذي شهد ميلاده، أصبح هو الآخر حطاما ينتظر قرارا بالإزالة.

الكاتب الكبير عباس العقاد

الأمر نفسه تكرر مع منزل الموسيقار الكبير بليغ حمدي الذي ملأ أرض مصر والعالم العربي كله بالنغم الجميل والألحان العبقرية على مدى خمسين عاما. كنت أتحدث مع أحد ورثة بليغ في المنزل الذي شهد ميلاده و سنوات حياته الأولي في منطقة شبرا، وكيف كان بليغ يعود الي المنزل دائما ويرفض بيعه لما يمثله له من ارتباط بذكرياته مع والدته التي كانت قد رحلت قبل سنوات بعيدة. هذا البيت لا يزال قائما في طي النسيان، لم يتحول الي متحف يليق بمكان مولد الموسيقار العظيم، وربما لاتعرف أجيال جديدة تعيش في نفس الشارع أن في هذا المكان ولد وعاش بليغ.

بليغ حمدي

رسميا، كانت هناك مبادرة قبل عدة شهور أعلنت عنها محافظة القاهرة تستهدف الحفاظ على منازل مشاهير الفن والأدب والسياسة، التي كانت شاهدة على حياة حافلة بإبداعهم المتفرد. المبادرة أطلقها في الأصل مجموعة من الشباب علي مواقع التواصل الاجتماعي، وحملت عنوان: “هنا كان يعيش”، تلقفت المحافظة الفكرة ووضعت لافتات علي بعض هذه المنازل، لكنها لم تتطور إلى ما هو أبعد من ذلك قبل أن تنطفئ نهائيا لأسباب لم يعلن عنها.

مبادرة ساويرس

استحضر كل هذه الخبرة المريرة معا وأنت تتأمل الخبر الثقافي الأبرز الذي شغل الرأي العام خلال الأسابيع الماضية، وهو شراء رجل الأعمال نجيب ساويرس منزل الشاعر الكبير الراحل أحمد فؤاد نجم تمهيدا لتحويله لمتحف يضم مقتنيات نجم عبر مسيرته الحافلة.

الخبر أحيا جدلا واسعا كان موجودا وبقوة في السنوات الأخيرة من حياة نجم حول علاقته بساويرس وطبيعة العلاقة التي يمكن أن تربط شاعر الفقراء الذي عاش حياته طولا وعرضا ما بين الزنازين وسكني الشقق الضيقة البسيطة، وبين ملياردير يتقدم عاما بعد الآخر في قائمة الأكثر ثراء حول العالم.

ردود الأفعال حملت تقديرا من البعض، وهجوما من آخرين، ووصلت الأصداء إلى مواقع وصحف عربية، واعتبرت إحدى تلك الصحف أن ساويرس اشتري آخر بقايا مجد نجم ومواقفه حينما اشترى شقته في استعراض يمثل انتقاما من الرأسمالية ضد شاعر الفقراء العظيم.

يعتقد كثيرون أن المنزل الذي اشتراه ساويرس هو شقة نجم التي كان يقطنها في “مساكن الزلزال” في المقطم، لكن ما خفي عنهم أن آخر سكن أقام فيه نجم كان في مساكن النصر بالمقطم، وهو شقة بالطابق الأرضي تحيط بها حديقة صغيرة كان نجم يزرعها بيده، بخبرته الفطرية المبكرة بالزراعة كفلاح مصري عاش ألف عام.

البداية كانت من إعلان نشرته أم زينب، آخر زوجات نجم، لبيع الشقة، وعندما علم ساويرس انزعج بشدة وطلب أن يقوم هو بشرائها محبة وامتنانا لذكرى صديق أحبه بشده كما لم يحب أحدا، وبالفعل سدد ساويرس مبلغ مليون جنيه، تمثل القيمة المطلوبة لشراء الشقة، بلا زيادة  أو نقصان.

وفي مطلع ديسمبر الجاري، وأثناء حفل توزيع جوائز “مسابقة أحمد فؤاد نجم لشعر العامية”  التي كان ساويرس قد أطلقها بعد وفاة نجم، كشف ساويرس عن الخبر بشكل مقتضب، ثم كتب تغريدة علي تويتر طالب فيها كل من لديه متعلقات للشاعر الراحل أن يبادر بضمها إلى المتحف.

تطورات مشجعة

في اتصال هاتفي مع منى فايق، المكلفة بالإشراف علي مشروع متحف نجم، كشفت لنا أنه لم تبدأ بعد أي خطوات تنفيذية في تجهيز المتحف، وأن ما تم حتى الآن هو إتمام إجراءات شراء الشقة، والتواصل مع كل من تحمس للمشاركة في هذه المبادرة سعيا لتقديم نموذج محترم لقدرة المشاركات المجتمعية على تبني مبادرات ناجحة لإحياء ذكرى نماذج ثقافية وطنية رفيعة تركت عطاء بالغ الثراء يتعين الحفاظ عليه، وعلى رأسهم نجم.

وقالت فايق: جميع محبي وأصدقاء نجم مدعوون للمشاركة، وقد بادر البعض بالفعل، ونسعى للتواصل مع مثقفين عرب ممن لديهم متعلقات لنجم، حيث أقام لسنوات في الجزائر وسوريا ولندن، وجميع هذه المقتنيات التي يبادر أصحابها بالتبرع بها للمتحف سوف يتم تصنيفها وتوزيعها وفق التصور النهائي لتصميم المتحف، عقب الانتهاء من مرحلة إجراءات التأسيس الرسمية.

الشاعر إبراهيم داود عضو مجلس أمناء “جائزة أحمد فؤاد نجم لشعر العامية” قال إنه اقترح أن يتم تحويل البيت إلى مركز ثقافي، لكن ساويرس رأي أن الفكرة الأساسية هي الاحتفاظ بالمنزل، باعتباره آخر سكن أقام فيه الشاعر. وحث داود كل الأطراف القادرة علي المشاركة بالتبرع لإخراج المتحف إلى النور في أقرب فرصة وبأفضل صورة ممكنة، باعتبارها مبادرة غير مسبوقة في تاريخنا الثقافي المشهود.

الشاعر إبراهيم داود

صخب المثقفين

البعض كالمعتاد وجدها فرصة لأخذ الموضوع في اتجاه مغاير، بإطلاق الجدل حول علاقة الملياردير ذائع الشهرة بالشاعر رمز الفقراء والمهمشين، ووصل الأمر بالبعض من أصحاب النزعات اليسارية الصارخة إلى توصيف هذه المبادرة بأنها محاولة من الملياردير المفتون بثروته و نفوذه لوضع نجم حيا وبعد رحيله ضمن نقاط قوته، لصناعة صورة يهيمن فيها على تراث شاعر يعشقه ملايين المصريين والعرب.

المفارقة أن أحدا من هؤلاء لم يشغله أنه في نفس الوقت الذي أعلن فيه نجيب ساويرس هذه المبادرة لتكريم نجم وتراثه الثقافي، كان ثمة نموذج آخر مغاير لسفه رجال أعمال كبار، أنفق أحدهم نحو 50 مليون جنيه في ليلة زفاف ابنه واستجلب فرقا فنية من تايلاند و الهند لإحيائها، فيما حارب آخرون بشراسة للاستيلاء على حق الدولة في أراض استولوا عليها دون سند من القانون.

في مجتمع  تملأه الشكوك والهواجس وتغيب عنه المعلومات ويبحث فيه البعض عن ساحة لمعارك وهمية يحارب فيها طواحين الهواء لاصطناع بطولات زائفة، ربما يبدو طبيعيا أن يرتاب الناس في تصرفات الآخرين، ولا يجدون فيها إلا ساحة لجدل عقيم يملأ مساحات الفراغ.

حكايات نجم وساويرس

لقد عرفت نجم طويلا و كثيرا وبعمق، وكان طبيعيا أن يتطرق حديثنا أحيانا إلى علاقته اللافتة في السنوات الأخيرة مع نجيب ساويرس، وطالما لمست من نجم بما يتمتع به من حس أولاد البلد أنه يحتفظ بمشاعر حب حقيقية لساويرس، ولا يرى فيه غير “ابن بلد” جدع يحلم أن يسهم قدر إمكانه في جهود التنوير في بلده، وكان يقدر كثيرا خطواته في مجال دعم النشر و الفنون والآداب.

قال لي نجم: “نجيب لما بنقعد بنضحك من قلبنا، ورجال الأعمال اللي عندهم قلب قليلين”.

أما نجيب، فقد سمعت منه قوله عقب رحيل نجم: “يوم وفاة نجم كنت أبكي كطفل فقد أستاذا وسندا كبيرا ورجلا ملهما، لقد كان أفضل من يتحدث عن مصر و يروي حكاياتها”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock