منوعات

ليلة بلا أحزان في حضرة الإمام الحسين .. ذروة محبة المصريين لآل البيت

في الثلاثاء الأخير من شهر ربيع الآخر من كل عام تقضي القاهرة ليلتها في محبة (الحسين) سيد شباب أهل الجنة كما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم، هي ليست ليلة شيعية فلا أحزان ولا لطميات أو بكائيات، وهي ليست سنية بالمفهوم التقليدي الذي يحاول البعض فرضه بالقوة، وإنما هي ليلة مصرية بامتياز، عشرات الألاف من النازحين يتوافدون من ربوع مصر المختلفة جمعتهم المحبة، وألف بين قلوبهم الحنين لبِضعة رسول الله.

ما أن تدلف إلى المشهد الحسيني حتى يأخذك رحيق خاص (خليط من عطور الزائرين، ونفحات مسك الضريح)، أجواء ذات خصوصية. مديح. عويل وأنين يفصح عن الشوق. دعاء وتبتل. ثم يخطف أنظارك  نصوص بعض القصائد التي تشغل جدران  قبة الضريح الحسيني، فعليها خطت بعض القصائد التي تنسب لصاحب المقام، وسطر بعض من الأحاديث النبوية التي تعطي الإمام الحسين بن علي رضي الله عنه تلك الخصوصية كقوله صلى الله عليه وسلم (حسين سبط من الأسباط)، وقوله (حسين مني وأنا من حسين)، وقد لا نكون معنيين هنا بإثبات صحة الحديث متنا أو سندا.

تلك الليلة المضمخة بحب الحسين هي جزء من تاريخ الإسلام المصري الطويل والمطبوع بحب آل البيت والمفطور على التقرب من الصالحين، وهو ما أكدته السيدة زينب رضي الله عنه حين خيرها الأمويون في وجهة الرحيل فقد اختارت مصر لأنها على حد تعبيرها (شعب المحبين لآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم)، بينما تذهب بعض الروايات إلى قول الإمام عبدالله بن عباس لها “يا ابنة بنت رسول الله، اذهبى إلى مصر، فإن فيها قومًا يحبونكم لله، ولقرابتكم لرسول الله، وإن لم تجدى أرضًا تسكنيها هناك، فستجدين في قلوب أهلها وطنًا”.

 لم يجانب الإمام عبدالله بن عباس الصواب ،فما أن حل أهل البيت بمصر حتى صارت قلوب أهل مصر وأرضهم جميعا وطنا لهم. فلم تجد محاولات تشكيك البعض في حقيقة وجود الرأس الشريف بضريح الإمام الحسين المعروف في مصر – في صرف الناس عن المزار الأهم في أحياء مصر القديمة، إذ على الرغم من عشرات الشهادات التاريخية لكبار المؤرخين وكتاب الطبقات (كابن إياس، والمقريزي ،والسخاوي وأبي المواهب الشعراني ) والتي تفيد بإنتقال الرأس الشريف من عسقلان إلى القاهرة ،إلا أن محاولات اتهام وتشكيك متواترة خلال القرن الماضي متزامنة مع انتشار الفكر السلفي الوهابي الذي يجعل من القضاء على المزارات والأضرحة رأس الإسلام وذروة سنامه، في ربط مخل بين زيارة أضرحة الصالحين وما يسمونه توهما ب”التوحيد”.

عادة ما يمتلك أبناء الطرق الصوفية أجندة سنوية لمواسم الاحتفال بموالد أئمة اهل البيت، وينظر المتصوفة إلى الاحتفال بموالد الأولياء والصالحين باعتبارها أيام خير وبركة ونفحات، وهم يقيسون الاحتفاء بموالد الصالحين على الاحتفاء بالمولد النبوي الذي جرت عادة المصريين على الاحتفاء به منذ عهد الدولة الفاطمية وحتى وقتنا الراهن.

ويتمثل الاحتفاء بإقامة ليالي الذكر والحضرات، ونذر الذبائح والأضاحي، وإطعام الفقراء والمساكين، غير أن ذلك الاحتفاء قد اتخذ طابعا شعبيا فلكلوريا فلم تعد مجرد مناسبة دينية وإنما احتفاء شعبي موسمي- لاسيما في المناطق الريفية، ففيه تنصب خيام الباعة، وملاهي الأطفال، وأدوات الزينة والحٌلي على مدار عدة ليال وحتى الليلة الكبيرة (الختامية)، وهي الليلة التي توافق ليلة ميلاد أو وفاة الولي صاحب المقام والمولد على ماجرت عادة الاحتفال.

وللطرق الصوفية في الاحتفاء بموالد أئمة أهل البيت كمولد الإمام الحسين، ومولد السيدة زينب، وكبار الأولياء والصالحين كالإمام ابراهيم الدسوقي، والسيد أحمد البدوي، وأبو الحسن الشاذلي وغيرهم من مشاهير الأولياء في مصر شأن آخر، إذ عادة ما يشد أبناء الطرق الصوفية الرحال من مختلف محافظات مصر إلى موضع المقام، فينصبون سرادقات رفعت عليها شعارات الطرق وأصحابها، ويسمونها (الخدمة)، فتجد السردقات وقد وضع عليها لافتات كتب عليها ( خدمة الطريقة الرفاعية) أو (خدمة الطريقة البرهامية) أو خدمة (أبناء السادة الشاذلية)، ومهمة تلك الخيام هي إعداد الطعام للفقراء والمساكين، واستقبال زوار صاحب المقام من الأماكن البعيدة وتقديم الطعام والمأوى طوال مدة المولد، واستقبال النذور والأضاحي المقدمة على شرف صاحب المولد، كما تعقد فيها حلقات الذكر لأبناء الطريقة ومختلف المحبين على اختلاف مشاربهم الصوفية.

وفي تلك الموالد عادة ما يحضر كبار المنشدين كالشيخ ياسين التهامي، وابنه محمود ياسين التهامي ليحيوا  ليالي المولد بحضرات الذكر والإنشاد، ولكل من هؤلاء معجبوه وسميعته الذين ينتظرون المولد كل عام للاستمتاع بالذكر على نغماتهم الشجية التي تنتزع منهم الآهات، فهؤلاء المنشدون وإن كانوا يتغنون بقصائد (ابن الفارض)، و(ابن عربي)، و(الجيوشي) و (البوصيري) وغيرهم ممن ابدعوا في مدح النبي وآل بيته، وقد خرجوا جميعا من حاضنة الطرق الصوفية- إلا أنهم يمثلون لونا من ألوان الغناء الشعبي الذي طالما وجد حظوته عند المصريين. فهم يمتلكون تختا موسيقيا كاملا ولا يلتزمون بما يلزم به المتصوفة أنفسهم من الآلات، وغالبا ما يكون جمهور السرادقات التي يقيمونها من عوام المحبين.

وفي محيط الضريح وحوله تنتصب خيام  المجاورين  التي تتجاور مع عربات  الباعة، وبينما تتلألأ الأضواء الزاهية  فوق المسجد، يواصل أبناء الطرق الصوفية من المحبين والزائرين ممارسة طقوسهم المعهودة في حضرة صاحب المقام، من قراءة الفاتحة، والتمسح بالضريح من باب التبرك، والطواف بالمقام، والدعاء والتوسل، ثم تصطف الصفوف وتنشد القصائد والمدائح النبوية  التي يتمايل علي إيقاعها الذاكرون كما تتمايل أغصان الشجر. ويظل الحال هكذا حتى الليلة الختامية  للمولد والتي تسمى بالليلة الكبيرة لأنها تكون الليلة الأكثر احتشادا وحضورا، بعدها ينصرف المجاورون، وترفع الخيام انتظارا لمولد آخر.

بلال مؤمن

كاتب و محرر مصري

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock