فن

Roma.. عندما تحول ألفونسو كوران شبحا يراقب ذكريات طفولته

في بعض الأحيان يراود الفرد منا شعور بأنه يعيش فيلما سينمائيا ما، وربما في بعض لحظات أحلام اليقظة، نرغب في رؤية ذلك الفيلم من الخارج، مثل الأحلام ولكن دون شخصيات أو احداث خيالية.

الفيلم السينمائي الشخصي هنا واقعي تماما، غير مرتبط بالشكل السينمائي التقليدي بوجود خط درامي معين، لكن لكل منا شعوره أيضا بالظروف المحيطة، فربما  تصبح حادثة ما محور الفيلم الخاص بك ،لكنها لا تشكل سوى هامش الهامش للفيلم الذي يعيشه فرد أخر.

ألفونسو كوران الكاتب والمخرج المكسيكي، في “Roma” صنع لنا فيلمًا خاصًا من ذكريات طفولته في المكسيك، في صورة أقرب إلى رؤية كل منا لحياته، حيث كل يوم يحتمل أن يكون عاصفًا أو هادئًا لكن الحياة تمضي بشكل أو بأخر.

كوران  سبق وأن فاز بجائزة الأوسكار كأحسن مخرج عن فيلم “Gravity ” عام ٢٠١٤، وفيلمه الحالي فاز بجائزة الأسد الذهبي من مهرجان فينيسيا هذا العام، ومرشح لجائزة الجولدن  جلوب كأفضل فيلم أجنبي وأفضل مخرج، والذي يقام حفل توزيع جوائزه في ٧ يناير الحالي ، كما أن من المتوقع ترشح الفيلم لعدد من جوائز الأوسكار، منها أفضل فيلم أجنبي وأفضل مخرج.

كل التفاصيل التي نراها في هذا  الفيلم هامشية أو محورية، يقول عنها كوران إنها جزء من ذاكرته حول عام عاشه من ٥٠ عاما مضت.. الفيلم الذي لا يملك إبهار “Gravity”، لكن كوران يضيف بأنه أهم فيلم في مسيرته الفنية.

استخدم كوران تقنية التصوير بالأبيض والأسود، ولكن رغم ذلك شعرت أنني أرى الألوان بوضوح تام، وربما أراد كوران استخدام تلك التقنية للتركيز على التفاصيل دون التفات إلى الألوان وأنها لا تشكل حيزا من التفاصيل، أو أن يرى كل منا الوانه كما يشاء وأخيرا إشارة بسيطة إلى كون الأحداث مرت في الماضي.

كوران يقول أيضا إنه قام بتجميع ٧٠ في المائة من الأثاث المستخدم في المنزل الرئيسي في الفيلم، من منازل عائلته في المكسيك، وأنه حرص على تصوير كل حدث في مكانه الحقيقي كلما أمكن ذلك.

الفيلم باختصار يحكى قصة عام في حياة عائلة من الطبقة المتوسطة في مقاطعة روما القريبة من العاصمة المكسيكية، عام ١٩٧٠، وتداخل الأحداث الواقعية في البلاد مع تفاصيل تلك العائلة، كسرد لحياة الطبقة المتوسطة خلال تلك الفترة.

يبدأ الفيلم بمشهد بسيط جدا لانعكاس لطائرة على الماء، وهي الظاهرة التي سنظل نراها طوال احداث الفيلم، ويقول عنها كوران إن منزل عائلته كانت تمر عليه الطائرات كل ٥ دقائق، وبعيدا عن ذاكرة كوران تعطينا الطائرة شعورًا بأن هناك عالما أوسعا  من تلك العائلة ومن تلك الأحداث في هذه الدولة، لكن العالم الأوسع هذا يكمن على هامش القصة.

المياه هنا ليست سوى وسيلة لتنظيف الأرض من قبل كليو “ياليتزا أباريسيو” العاملة المنزلية التي تساعد في رعاية أطفال العائلة وهي مستوحاة من شخصية حقيقة “ليبو” ساعدت في تريبة كوران نفسه  الذي قام في نهاية الفيلم بإهدائه لها، كليو تنتمي عرقيا للسكان الأصليين وتقوم بالخدمة في منزل أصحابه من  العرق الأبيض.

كوران استخدم في اغلب مشاهد الفيلم أسلوب التصوير بالعدسة العريضة “Wide Angle”، وهي تعطي مساحة أوسع للرؤية الكاملة دون اشتباك مع العنصر الرئيسي في المشهد لتصبح بعض التفاصيل الهامشية  جزءا أصيلا من المشهد. ففي أحد المشاهد على سبيل المثال ترى الملصق الدعائي لكأس العالم المقام في المكسيك عام ١٩٧٠، دون أي تركيز عليها سواء من الكاميرا أو الحوار، لكن في النهاية تعرف أنك الأن في عام ٧٠، يتكرر ذلك تقريبا طوال مشاهد الفيلم ،وكلما اعدت مشاهدة الفيلم ستندهش بكم التفاصيل الأخرى، الاستثناء الوحيد كان يحدث مع كليو نفسها في استخدام Medium Close- up Shot، مما يخلق تعاطفا مع تلك الشخصية التي يرغب كليو نفسه في التعاطف معها طوال أحداث الفيلم.

حركة الكاميرا مع أسلوب التصوير، دائما ما تشعر أنها تسبق الممثل، وكأنها تعرف ما سيحدث قبل المشاهد والممثل نفسه، أقرب تشبيه لذلك الأسلوب هو ما نراه في الحلم، أو عند  استرجاع أحداث من الذاكرة. تبدو الكاميرا وبطبيعة الحال نحن المشاهدين ،كعين تعرف وتراقب المشهد، ورغم كل ذلك تسير أحداث الفيلم بشكل فوضوي غير مرتب، يشبه الحياة الواقعية.

تمضي الحياة في الأسرة بشكل هادئ داخل المنزل في المشاهد الأولى، والتي نرى فيها كليو التي تعتبر أمًا ثانية لثلاثة أطفال وبينهم ما يمكن أن نعتبره كوران نفسه، الأم هي صوفيا “مارينا دي تافيرا” التي تعامل كليو في أغلب الأحيان باعتبارها فردا  من العائلة، والأب أنطونيو”فيرناندو غيرديكا”، الأب يبدو في صورة المسيطر ويغلب على أحاديثه الكثير من التذمر، علاقة الأب بكليو علاقة السيد بالعبد تمامًا.

تتعرف كليو على فيرمين” جورج أنطونيو جويرو” الطالب الفقير مثلها تماما، الذي يمارس رياضة الكاراتيه ويعتبر تلك الرياضة هي المنقذ لحياته بعد أن كان على وشك الموت بسبب الإدمان.

ترتبط كليو بعلاقة عاطفية مع فيرمين، والذي سرعان ما يقوم بالهروب منها بعد أن يعلم بحملها منه، وهنا تتطور الأحداث في مسارين  متوازيين  بين طبقة العائلة والطبقة الفقيرة. ففي الوقت  الذي يقرر فيه الأب التخلي عن الاسرة، تزداد العلاقة بين كليو والأم  ارتباطا  ويقرران الاحتفاظ بالجنين، إلى هنا تبدو الأحداث شخصية تماما، ولكن كوران ترك الظروف المحيطة للأسرة تتسلل إليهم ببطء وسلاسة.

تكتشف كليو أن فرمين ومعه بعض الشباب الذين يمارسون تلك الرياضة العنيفة يتم تدريبهم بشكل جماعي من قبل الحكومة، ويبدأ هنا تداخل الشخصي مع العام، فحين كانت كليو على وشك الولادة، كانت البلاد على موعد  مع مظاهرات عارمة للطلبة  ، لكن الشباب الفقراء الذين تم تدريبهم وبينهم فيرمين، كانوا أداة الدولة لفض تلك المظاهرات وقتل الطلاب في حادثة تاريخية حدثت بالفعل فيما سمّي  “مذبحة كوربوس كريستى عام 1971” لتجد نفسها أمام حبيبها  السابق وهو يقتل.

مشهد المذبحة من الفيلم

لكن هذا الحدث الضخم يعود مرة أخرى لهامشيته رويدا رويدا، مع وجود كليو داخل غرفة العمليات للولادة، ولكنها تفقد الجنين نتيجة تأخرها في الوصول للمستشفى بسبب المذبحة التي أغلقت الشوارع.

كليو التي أصبحت جزءا من العائلة تذهب مع الأم والأبناء لأحد الشواطئ ،وفي غفلة من الأم تنقذ الأبناء من الغرق رغم أنها لا تعرف السباحة، تشعر هنا برغبة المخرج والكاتب كوران في أن يقول.. تلك هي أمي الثانية , لكننا أبدا لن نعرف هل عادت كليو لتصبح فردا  أدنى داخل العائلة أم لا؟

كانت تلك لتصبح نهاية مثالية عند مخرج أخر غير كوران، فكل الشخصيات التي خلقت تعاطفا مع المشاهد في كادر واحد مثالي، لكن إذا كان ذلك لا يحدث في الحياة الواقعية فلن يحدث هنا أيضًا.تعود الأسرة إلى المنزل وقد أعيد ترتيبه دون الأب، وتأتي النهاية وكليو تقوم بمهامها المنزلية المعتادة، ويعود المنزل هادئا كما في بداية الفيلم مع مرور طائرة في الجو،  لتشعر أنك في حاجة إلى المزيد من الوقت لمعرفة تفاصيل حياة هذه الأسرة اليومية في العام الجديد.

الفيلم يحمل كما من التناقض مع مكسيك ذلك العصر، فبينما الدولة كانت تحكمها الديكتاتورية  في ذلك الوقت ،وما يتبع ذلك من ذكورية المجتمع، نجد أن الفيلم يهتم بالبطولة النسائية تماما، فالشخصيات الرئيسية من النساء وبعدهم الأطفال.

 عرض فيلم روما ضمن فعاليات مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته الأخيرة ي، وعرض بشكل محدود في بعض دور السينما العالمية، لكنه يعرض بشكل حصري على شبكة نيتفليكس.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock