رؤى

أسئلة الحاضر ودروس الماضي.. صفحات من تاريخ النهضة العربية(2)

من تحت عباءة التنويري الثائر جمال الدين الأفغاني، خرجت مدرسة الأستاذ الإمام محمد عبده الذي شارك الأفغاني في إصدار جريدة “العروة الوثقى” وأولى اهتمامه إلى الإصلاح المعرفي بتحديث الفكر الإسلامي وإثارة أسئلة الهوية والدعوة لإصلاح الأزهر وتجديد الفقه وتجديد الفكر الديني، كما دعا إلى تحرير العقل العربي من الجمود بالاستفادة من المنجز الحضاري للآخر مع الحفاظ على الهوية العربية الإسلامية.

خاض محمد عبده العديد من المناظرات مع المستشرقين ودعاة التغريب كفرح أنطون، وهانوتو وغيرهم. وأخذ على عاتقه محاولة الإجابة على عدد من الأسئلة كموقف الدين من العلم، والتعارض بين العقل والنقل، والموقف من التراث، وغيرها من القضايا التي ما زالت محل نقاش في تكرار غير مفهوم.

وقد تأسس للإمام محمد عبده تيار مستنير عمل على تحديث المجتمع المصري على مختلف الأصعدة، فكان من بين رموز هذا التيار سعد زغلول، وطلعت باشا حرب، ومحمد حسين هيكل، وأحمد لطفي السيد، وفتحي زغلول، وطه حسين، ومصطفي عبدالرازق، وحفني ناصف، وصاحب “الإسلام وأصول الحكم” علي عبدالرازق، وقاسم أمين، ورشيد رضا الشيخ السلفي الذي قدم الى مصر عام 1898 فصحب محمد عبده حتى وفاته عام 1905.

وبموازاة ذلك برز الاتجاه العلمي العلماني في الثقافة المصرية متمثلا في سلامة موسى، وشبلي شميل، وعصام الدين حفني ناصف، والذي أخذ على عاتقه مهمة تعريف المجتمع العربي بالنظريات الغربية الاقتصادية والسياسية كالاشتراكية والماركسية.

ثم الاتجاه السلفي المحافظ متمثلا في عبدالعزيز جاويش، ومحب الدين الخطيب، والشيخ رشيد رضا، صاحب مجلة المنار التي عمل بها حسن البنا كمحرر قبل قيامه بتأسيس جماعته 1928م.

أما التيار الليبرالي فقد تأسس مع صدور دستور1923، الذي كان بمثابة أول دستور ليبرالي مدني في مصر والمنطقة العربية ككل؛ لما أرسته ثورة 1919 من مبادئ رئيسية مثل الحرية والمساواة واحترام الفرد، وعدم التمييز، والتعددية الحزبية والبرلمانية، والتي كانت بمثابة مصدر الهام لأغلب الدساتير اللاحقة على دستور 1923، تم ونقلها إلى تجارب عربية أخرى.

لكن الشيخ رشيد رضا الذي أسس مطبعة ومجلة المنار، وانفرد بجمع وطباعة تراث الإمام محمد عبده – فيما عرف بتاريخ الأستاذ الإمام – استطاع بسط نفوذه على تراث الشيخ الذي جمعه وقام بطبعه، ليقدم ، على غير الحقيقة ،وجها محافظا لمحمد عبده. وقد توصل أحد الباحثين وهو الدكتور محمد الحداد إلى أن رشيد رضا أخفى من تراث الإمام بعض الرسائل التي لم تتوافق مع اتجاهه السلفي كرسالة (الواردات الإلهية) وهي آخر ما كتب الأستاذ الإمام ،وهي رسالة في التصوف كما هو واضح من عنوانها، وعلل رشيد رضا غيابها “بأنك لو سألت الاستاذ الأمام عن ذلك بعد وفاته لقال لك إنه قد تاب عنها”.

ولذلك فإن كثيرين يعتبرون أن رشيد رضا كان بمثابة المعبر الأقوى والجسر الأهم لانتقال الفكر الوهابي والسلفي إلى الثقافة المصرية من خلال مجلته” المنار”، وكذلك من خلال مقالاته اليومية في جريدة الأهرام، ولقد قال في ذلك (فرأينا أن من الواجب علينا أن نبين لهم ما عندنا من العلم بذلك فى جريدة يومية واسعة الانتشار، فأنشأنا بضع مقالات نشرناها فى جريدة يومية( الأهرام) وفى مجلة المنار… فعلموا أن هؤلاء النجديين المنبوزون بلقب الوهابية سنيون مستمسكون بمذهب السلف فى العقائد، ومذهب الإمام أحمد ابن حنبل فى الفروع، وأنهم أشد شعوب المسلمين فى هذا العصر اتباعا وأبعدهم عن الابتداع).

ومع بروز نجم حسن البنا بعد تأسيس جماعة الإخوان المسلمين، واتساع انتشار التيار السياسي الديني السلفي في مقابل انحسار التيارات الليبرالية والاشتراكية أضطر كثير من رواد التنوير إلى مواكبة هذا التحول، فنجد محمد حسين هيكل بعد كتابه “ثورة الأدب”، وروايته “زينب”، التي كانت أول رواية عربية، يضطر لمواكبة الزخم الإسلامي بكتاباته الإسلامية، ويتجه إلى تصنيف مؤلفاته حياة محمد، وفي منزل الوحي، وسير الفاروق وأبو بكر.

وكذلك فعل طه حسين، فبعد كتابه عن الشعر الجاهلي1926، والأيام 1929، ومستقبل الثقافة في مصر الذي أرسى فيه مبدأ الشك الديكارتي والنقد التاريخي في مطالعة السير والتراث الإسلامي، نجده قد نحا إلى الكتابات الإسلامية، في كتاباته التي حملت عناوين “الفتنة الكبرى – علي وبنوه”، 1953”.

وينطبق هذا أيضا على العديد من التنويرين الذين وجدوا أنفسهم محاصرين بتيار ديني متدفق يكتسب سطوته من سهولة الطرح وتعلقه بالدين أولا، والتغذي واكتساب المشروعية من التبني الظاهر لبعض القضايا الوطنية والدينية كقضية الاحتلال البريطاني لمصر أولا، ثم القضية الفلسطينية واحتلال اليهود لها ثانيا.

ومع مطلع الخمسينيات من القرن العشرين، طرأ متغير آخر كان له أثر بالغ على مسار المشروع النهضوي والتنويري العربي، فقد شهدت تلك الفترة بزوغ حركات التحرر الوطني في العديد من الأقطار العربية، عقب ثورة الضباط الأحرار في مصر في 23 يوليو 1952، وكان طبيعيا أن يطغى الاهتمام بعدها بالأفكار والكتابات التي تخدم مشروع القومية العربية، وأن يلحق التهميش معارضي هذا التوجه من أصحاب الرؤى الليبرالية المخالفة. وفي هذا يذهب المفكر اللبناني جورج طرابيشي إلى أن تلك الفترة شهدت انزواء طبقة البرجوازية العربية التي كانت الداعم الأول لمشروع النهضة والتحديث، ما أفضى إلى توقف مسار النهضة والتنوير.

جورج طرابيشي

وعلى الرغم من مضى ما يربو على مائتي عام على مشروع النهضة والتنوير العربي إلا أن أسئلة قديمة حول قضايا الهوية ودوائر الانتماء، والموقف من التراث لا تزال تطرح نفسها، وتدور في فلكها أغلب المشاريع التنويرية المعاصرة والتي تتنوع مواقفها ما بين القطيعة، والاجتزاء والاجترار أو الدوران في فلك الماضي والارتماء في أحضان السلف.

وسواء صدق هذا الكلام أم لا، فلا نستطيع القول بأن مسار النهضة توقف تماما، لكن الأمر تحول من تيار واسع يستوعب الكثير من الآراء والأفكار إلى مجرد إسهامات فردية محدودة هنا أو هناك، لا تزال غير قادرة على الانفتاح واستيعاب التنوع الثقافي وتقبل الآخر وسيادة مفهوم المواطنة والجماعة الوطنية، على النحو الذي رأيناه خلال مرحلة الزخم الليبرالي حتى مطلع الخمسينيات.

بلال مؤمن

كاتب و محرر مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock