فن

السينما السودانية.. عقود من الالغاء والتضييق والتهميش

قبل أن يموجَ السودان بالاحتجاجات، وقبل أن تجتاحَ الجموع الغاضبة المدن لترابطَ في الميادين؛ مُتصدِّيةً بالصدور العارية للرصاص الحي، وسلطة المستبد الجاثم لعقود طويلة على أنفاس الشعب السوداني – قبل ذلك وعبر آماد بعيدة تخلَّق الوعي الثوري بفعل عوامل عديدة كانت السينما إحداها. السينما. هذا الفن الذي ينتظم فنونا عدة تتداخل في تناغم؛ لِتُنتجَ ذلك الشَّريط السَّاحر الذي يجعل المتلقي في حالة أشبه بالخَدَر؛ لكنَّه يفتح عينيه على آفاق تعمِّق الرغبة في التَّغيير والارتقاء بالواقع ومحاولة تجسير الفجوة بين أزمات المجتمع وما هو ممكن من حلول لها.

وعند تناول موضوع السينما السودانية، فإننا لا نكون بصدد الحديث عن إنجازات تحققت أو أعمال سينمائية رائعة؛ بل إزاء سينما تناوئ وتقاوم بصمود أمام محاولات التضييق والتهميش والإلغاء على مدى عقود طويلة. تتضارب الآراء حول بداية تاريخ السينما السودانية، فهناك من يربطها بالعرض السينمائي الأول  الذي شهدته الخرطوم عام1912، وكان بمناسبة افتتاح خط سكة حديد الخرطوم- الأُبَيِّض ،وتضمن هذا  العرض فيلما وثائقيا للقاء الملك البريطاني جورج الخامس ببعض الشخصيات السودانية. بينما يؤرخ آخرون لبداية السينما في السودان، بتصوير فيلم تسجيلي للمخرج السويسري د.م.دافيد عام 1910، وكان أول عرض لهذا الفيلم الذي يوثق رحلة صيد قام بها المخرج، بعد عامين بمدينة الأُبَيِّض.. وهناك من يرى بداية السينما السودانية كانت بإنشاء أول وحدة لإنتاج الأفلام في السودان عام 1949، وهو مكتب الاتصالات العام للتصوير السينمائي الذي اقتصر إنتاجه على الأفلام الدعائية، وجريدة نصف شهرية، وكان هذا الإنتاج خاضعا لسلطات الاستعمار البريطاني.

 كذلك تتضارب الأقوال حول أول دار عرض أقيمت في السودان فيذهب البعض إلى أنَّها دار عرض “النجم الأحمر” في مدينة “عَطْبَرَة” وكان ذلك عام 1931، بينما يؤكِّد آخرون أنَّ افتتاح سينما “كوليزيوم” بمدينة الخرطوم، سبق هذا التاريخ بنحو عام.. قبل ذلك التاريخ كانت سيارات العرض السينمائي تنتقل بين المدن السودانية لتعرض أفلاما تسجيلية وثائقية وتوعوية، ويُذكر أنه بعد منتصف العشرينات قُدمت عروض لأفلام أمريكية صامتة في سينما (سكيتنج رنك) بالخرطوم وهي “صالة فرجة” أقامها اليوناني” عمانوئيل ليوكوس” وكان روَّادُها من الأجانب إلى جانب فئة قليلة من المثقفين السودانيين أمثال “محمد أحمد محجوب” ودكتور “عبد الحليم محمد “وآخرين.

سينما كوليزيوم أول دار عرض في الخرطوم

بعد الاستقلال عام 1956، استخدمت الدولة السودانية السينما كبوق للدعاية، واعتبرتها وسيطا إخباريا، وعندما ظهر التليفزيون وجدت فيه ضالتها.. فتراجعت عن دعم السينما ثم نبذتها قبل أن تتحول معها إلى حال العداء.

في تلك الفترة أخرج “كمال محمد إبراهيم” فيلما تسجيليا عن مأساة الأطفال المشردين النازحين من الريف إلى المدينة وكيف يتحولون إلى الانحراف لعدم توفر سبل عيش لهم.. وتبعه المصور السينمائي “جاد الله جُبَارة” بفيلم بعنوان “المنكوب”.

كمال محمد ابراهيم

 وينظر السينمائيون السودانيون بمزيد من الإجلال والتعظيم لتجربة المخرج “حسين شريف” عام 1975، فيلم “انتزاع الكهرمان” الذي يعتبر نقلة حقيقية للسينما السودانية باعتماده الأساليب التقنية العلمية.. قدّم “حسين شريف أيضا فيلم “جذع النار” عام1973، و”الطفولة” 1975.

فيلم “انتزاع الكهرمان”

من الأفلام التسجيلية القصيرة التي قوبلت بحفاوة في الداخل والخارج فيلم “جمل” لإبراهيم شدّاد عام 1981، ويتناول الفيلم توثيق للعصَّارة كإحدى الصناعات الموشكة على الاندثار. وفاز الفيلم بجائزة في مهرجان “ليل” بفرنسا.. بعد ذلك بعامين قدَّم “شداد” فيلم “الحبل” عن المذبحة التي قام بها الأتراك بحق الشعب السوداني عام 1882، وراح ضحيتها الآلاف.. ثم يقدِّم “شداد” تجربته الرائعة عام 1993، فيلم ” إنسان” الذي يناقش معاناة الإنسان السوداني في واقعه الذي يصيبه بالرعب والفزع.

المخرج السينمائي ابراهيم شداد

لكن مبادرة إنتاج أول فيلم روائي طويل في تاريخ السينما السودانية جاءت على يد “الرشيد مهدي” الذي كان يمتلك محلا للتصوير الفوتوغرافي، وقد حمل الفيلم عنوانا معبرا عن واقع السينما السودانية هو “آمال وأحلام” وأخرجه “إبراهيم ملَّاسي”.

ويذكر المؤرخ السينمائي السوداني “هشام محمد عباس” في دراسة تحليلية له عن الفيلم أنَّ الأمر لم يكن سهلا فقد “بدأت المحاولات الأولى لتصوير الفيلم في نهاية عام 1962، إلا أن صعوبات وقفت أمام الإنتاج فتوقف، قبل أن يبدأ التصوير مرة أخرى عام 1966. وكان مسرح الفيلم منطقة “السَّيَّالة” على النيل غرب “عَطْبَرَة” والسكة الحديد وبعض الشوارع في حي “السودنة” وسوق السبت في “الدامر”.. ويشير إلى أن العرض الأول للفيلم كان عام 1968 وكان عرضا خاصا، لكن العرض الرسمي كان عام 1970 في سينما “أم درمان” الوطنية.

وفي عام 1973، يقدِّم “أنور هاشم” فيلما روائيا طويلا بعنوان “شروق” ولكنه لم يعرض بسبب منعه من الرقابة، وفي عقد السبعينيات أنتج قسم السينما بوزارة الثقافة فيلمين فقط، حيث أخرج “”سامي الصاوي” فيلما بعنوان “دائر على حجر” عن صناعة الطواحين التي توشك على الاندثار، وقدم “الطيب مهدي” فيلما عن الأطفال المعاقين بعنوان “أربع مرات للأطفال”.

المخرج “الطيب مهدي”                                   المخرج “أنور هاشم”

وأخرج المخرج” سليمان محمد إبراهيم” فيلمه التسجيلي “لكن الأرض تدور” كمشروع تخرج في معهد السينما بموسكو، وقد صور الفيلم في اليمن، وحصل على جائزة فضيَّة في مهرجان موسكو عام 1977، قدّم “سليمان” أيضا فيلما مميزا حمل اسم “إفريقيا” شارك به في عدة مهرجانات.

من التجارب السينمائية الهامة التي تجدر الإشارة إليها فيلم “تاجوج” لـ “جاد الله جُبَارة” ويتناول الفيلم قصة حب شعبية قديمة انتشر الحديث عنها في إقليم شرق السودان، ورغم قلة الإمكانات إلا أن الفيلم حقق نجاحا كبيرا واشترك في عدد من المهرجانات ونال عددا من الجوائز.. كما قدّم “جُبَارة” تجربة أخرى عن معاناة ابنته مع مرض شلل الأطفال، وتغلبها على هذا المرض من خلال السباحة التي تفوقت فيها محليا، ووصلت إلى العالمية بالفوز في سباق “كابري- نابولي” بإيطاليا.. كان عنوان الفيلم” فيفا سارة”.. وتجيء “حورية حاكم” لتخرج “الزار” عام 1976لتصبح بذلك أول امرأة سودانية تقتحم عالم الإخراج السينمائي.

المخرج جاد الله جبارة من كواليس فبيلم تاتوج

ومع وصول جبهة الإنقاذ إلى الحكم عقب الانقلاب العسكري الذي قاده الرئيس عمر البشير عام 1989، دخلت السينما السودانية أسوأ مراحلها ،إذ تم أغلاق  معظم دور العرض السينمائي  فتحولت إلى خرائب، وأثقل أصحاب الدور بالرسوم والضرائب حتَّى هجروها، وألغت الدولة دون قرار معلن وحدة السينما، وتم التخلص من أرشيف الوحدة ، وأحرقت وثائق السينما السودانية، مما جعل السينمائيين السودانيين يفضلون الهجرة. ونشأت نتيجة لذلك سينما السودان في المهجر والتي قدمت أعمالا مثل الفيلم التسجيلي البريطاني “دائرة الألم” للمخرجة إنعام حماد 1996، والفيلمين التسجيليين المصريين “يوميات في المنفي 2000” إخراج “حسين شريف” و”عطيات الأبنودي” و”التراب والياقوت: رسائل من الغربة” إنتاج، 2005 إخراج “حسين شريف”. والفيلم القطري “ايتام ما يقوما” إخراج “تغريد السنهوري” عام 2007، وفي عام 2009 أنتجت “تغريد السنهوري” فيلما تسجيليا قصيرا بعنوان “أم مجهولة” الذي صورته في السودان عن معاناة النساء اللواتي يُنجبن من دون زواج.

المخرج “حسين شريف”                                       المخرجة “عطيات الأبنودي”

لقد عانت السينما السودانية خلال العقود الثلاثة الأخيرة الكثير من التضييق والتهميش بل والعداء السافر من جانب حكومة الإنقاذ.. واليوم وبينما تشتعل الثورة في أرجاء السودان ضد هذا النظام الذي قسَّم البلاد و، تنتعش آمال السودانيين بمستقبل أفضل، وستكون السينما حاضرة بقوة لتوثيق هذا الحدث العظيم الذي سيفتح لها في القريب المنشود، آفاقا أكثر رحابة لتصل إلى ما نرجوه لها من تقدم وإبداع.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock