رؤى

توظيف الدين في السياسة الخارجية: إعادة التفكير في انتشار الوهابية (2 – 2)

 ينشر موقع “أصوات أونلاين” الجزء الثاني والأخير من الدراسة المهمة التي أعدها بيتر ماندافيل وشادي حميد، الباحثان في مركز سياسات الشرق الأوسط التابع لمعهد بروكنجز. وتتناول هذه الدراسة موضوع تصدير المملكة العربية السعودية للفكر الديني الوهابي وتوظيفه سواء لتعزيز دورها ونفوذها في العالم الإسلامي أو لخدمة الأهداف الأمريكية. وتشير الدراسة، التي نُشرت في نوفمبر 2018، إلى أنه ورغم التقاء مصالح السعودية من تصدير الوهابية، مع أهداف وخطط الولايات المتحدة في حربها الباردة ضد الاتحاد السوفيتي السابق، إلا أن طموح المملكة لتدعيم مكانتها عبر القوة الناعمة الدينية كان سابقا  على ذلك. لكن هذا القول يتناقض مع ما أعلنه ولي العهد السعودي محمد بن سلمان نفسه مؤخرا عن أن بلاده كانت تصدر الفكر الديني الوهابي بناء على طلب الولايات المتحدة وخدمة للمصالح الأمريكية.

تأليف: بيتر ماندافيل وشادي حميد

ترجمة: أحمد بركات

يبدو الجدل المحموم بشأن تأثير التمويل السعودي على الإسلام في العالم مستمرا بلا نهاية. فالمتشككون يشيرون إلى توافر أدلة دامغة على أن نشر الوهابية قد خلق بيئة خصبة للجماعات المتطرفة لتنمو وتجند مزيدا من الأعضاء، ويؤكدون في بعض الحالات (باكستان، على سبيل المثال) وجود روابط مباشرة بين المساجد والمدارس الممولين سعوديا من جانب وعمليات التجنيد في التنظيمات المتطرفة من جانب آخر. ففي دراسته عن القوة الناعمة التي حملت عنوان Soft Power، يؤكد جوزيف ناي أن الوهابية السعودية ألهمت الإسلاموية الراديكالية بشكل مباشر، إذ “لم تكن القوة الناعمة الوهابية موردا يمكن السيطرة عليه من قبل الحكومة السعودية، وإنما كانت أشبه بوحش خلقه ساحر، فهاجم خالقه”.

وركز آخرون على تأثير الوهابية على المجتمع بوجه عام، بما في ذلك حدوث تحولات باتجاه تبني معايير وممارسات أكثر محافظة؛ ويربط هؤلاء بصورة مباشرة بين التمويلات السعودية من جانب وتبني المجتمع ممارسات لم تكن مألوفة فيه من قبل، مثل ارتداء النساء النقاب، من جانب آخر. وعند آخرين تبدو التأثيرات جلية في تحول المواقف تجاه الأقليات الدينية التي تنظر إليها الوهابية باعتبارها ’غير شرعية‘، مثل الشيعة، أو الممارسات الدينية التي تراها ’ضالة ومنحرفة‘، مثل الصوفية. ويرى هؤلاء جميعا أن هذه التأثيرات بوجه عام قد شوهت عبر السنين الثقافات المحلية من خلال نقل ممارسات دينية “أجنبية” إلى بيئتها. فالمسجد الذي يتم بناؤه بتمويل سعودي – وفقا لهذه السردية – يستلزم قبول الأئمة المقبولين سعوديا، مثلما تستلزم المدارس الدينية مناهج بعينها.

رغم ذلك، تبقى فكرة التدمير الكامل للثقافة المحلية الأصيلة عن طريق أيديولوجيات أجنبية غير واقعية، وربما ساذجة. فالدعم السعودي للدين يلقى ترحيبا كبيرا في العديد من المجتمعات، مثل تلك التي تنظر سلطاتها المحلية إلى التأكيد على الهوية الدينية والتعليم الديني باعتباره معوقا لأجندات التنمية الوطنية والحداثة. وفي حالة تزايد المطالبة من أجل توفير تعليم ديني (وهي متزايدة في أغلب الأحوال)، فمن البديهي أن تتوافر المحفزات والضغوط على شخص ما، أو دولة ما للقيام بذلك. وفي حالات أخرى، يسعى الحكام المحليون وراء الحصول على الدعم السعودي من أجل إضفاء مزيد من الرونق على أوراق اعتمادهم الديني لدى شعوبهم. وفي هكذا حالات، فإن بعض الكيانات في منطقة الشرق الأوسط تلعب دورا محوريا لخلق بنية تحتية دينية. كما أن الأمر لا يمكن اختزاله في أن المعايير الدينية السعودية تحل ببساطة محل الإسلام المحلي، وإنما – على العكس من ذلك – تفرض عملية “نقل الدين” جهودا مضنية ومعقدة على كل من المرسل والمستقبل. كما أن بعض الدول المستقبلة للدعوة الوهابية تبدو قادرة على استيعاب هذه التأثيرات ضمن منظومتها الخاصة دون المرور بمخاضات الاضطرابات المحلية أو التغيرات الاجتماعية.

إلا أن هذا الطرح يتوقف على عامل مهم، وهو مدى ترسخ المؤسسات الدينية المحلية في المجتمع والقوة التنظيمية للدولة. ففي الدول التي تتمتع فيها المؤسسات الدينية بالقوة، وترتبط بعمق بالدولة (كما هو الحال في تركيا)، فإن تأثيرات التصدير الأيديولوجي عادة ما تكون أقل وضوحا. يتوقف هذا الطرح أيضا على متغير آخر هو قوة الحركات الإسلامية الجماهيرية، مثل جماعة الإخوان المسلمين، التي تشكل حجر عثرة أمام التنظيمات السلفية في اجتذاب مؤيدين وتشكيل قاعدة شعبية، وذلك بسبب قدرة الأولى على اجتذاب تأييد الدوائر المحافظة في مجتمعاتها المحلية.

ويرتبط تحد آخر في عملية تقييم طبيعة وحجم التأثير الديني العابر للحدود للوهابية السعودية بالسلفية بوجه عام. فهناك توجه عام لتفسير أي انتشار سلفي في أي بيئة من البيئات باعتباره دليلا على تأثيرات وهابية أجنبية؛ إلا أن هذا التفسير مضلل إلى حد بعيد. بعبارة أخرى، فإن مجرد الحضور السلفي في مجتمع ما لا يمكن تأويله بحال على أنه مظهر أيديولوجي للدعم الأجنبي – خاصة السعودي – للتيار السلفي. وربما تتوافر تفسيرات أبسط لهذه الظاهرة. فمن الممكن أن عددا أكبر من الأفراد يتحولون إلى السلفية لأنهم يجدونها أكثر جاذبية لأسباب خاصة تتعلق بهم دون غيرهم. وفي بعض الحالات، ربما يكون التمويل السعودي مفيدا لبعض التنظيمات المحلية. لكن التمويل بشكل عام لا ينشئ تيارا، وإنما يساعده فقط على الانتشار. وتمتلك بعض الدول، مثل مصر وباكستان، فكرها السلفي “المحلي” الذي شهد نوبات توهج وخفوت على مدار السنين. وفي مصر تأسس أول تنظيم سلفي (جماعة أنصار السنة المحمدية) في عام 1926، أي قبل تأسيس المملكة العربية السعودية بصورتها الراهنة، كما تضرب حركة أهل الحديث الباكستانية بجذورها في أطناب نهاية القرن التاسع عشر.

وزير الشئون الإسلامية السعودي يستقبل رئيس جمعية أهل الحديث الباكستانية

وتتمثل إشكالية أخرى في اختزال الحضور السلفي أو المحافظ في التأثير السعودي في أن المملكة ليست الدولة الوحيدة في منطقة الخليج التي تدعم نشر الدين خارج حدودها. فبرغم أن الاقتصادات البترودولارية الأصغر حجما لدول قطر والكويت والإمارات العربية المتحدة تعني أنها تعمل على المستوى العالمي على نطاق أضيق، إلا أن هذه الدول قد دعمت بقوة وبدرجات متفاوتة العديد من القضايا الإسلامية ذاتها، وشاركت في بناء المساجد، ومولت التعليم الديني بطرق لا تختلف في كثير عما قامت به المملكة العربية السعودية. كما خضعت المؤسسة الدينية في قطر – على سبيل المثال –  لتأثيرات المنح والتوجهات الدينية السعودية، وليس أدل على ذلك من أن مسجدها الوطني يحمل اسم محمد بن عبد الوهاب.

مسجد محمد بن عبد الوهاب بدولة قطر

وفي سياقات أخرى لجأ الشباب المسلم إلى الفكر السلفي الذي يتسم بالأمان والموثوقية كوسيلة لتجذير أنفسهم في تربة دينية خالصة وغير مهجنة، لا سيما في مواجهة بيئة إعلامية صاخبة يصعب العثور فيها على إجابات ناجعة عن تساؤلات الدين. وتمثل تونس ما بعد ثورة عام 2011 مثالا صارخا على هذا التوجه. فقد شهدت البلاد طفرة غير مسبوقة في النشاط السلفي (من المفترض أن العلماء والممولين السعوديين لا يستطيعون الإنجاز بهذه السرعة). فعلى مدى عقود، لم تكن ثَم مساحة كبيرة في الفضاء التونسي لهذا التمظهر الديني الواضح، والآن يترك انفتاح ديمقراطي غير متوقع فراغا كبيرا أمام الانتشار السلفي. وفي ظل انصراف الأحزاب الإسلاموية السائدة، مثل حزب النهضة، إلى الممارسة الحزبية السياسية، يجد السلفيون أنفسهم أمام مساحة غير مسبوقة من الحرية للمناورة، خاصة في الفضاءات التي تعاني فيها مؤسسات الدولة من الضعف والترهل.

الجماعة السلفية في تونس

ما يبقى أيضا غير واضح هو إلى أي مدى يمكن القول بأن الكيانات والأنشطة السعودية المشار إليها سلفا تشكل معا استراتيجية قوة ناعمة دينية رسمية من قبل الدولة السعودية. فبينما تنتمي بعض الكيانات المشاركة بفاعلية قصوى في نشر الفكر الوهابي إلى الحكومة السعودية، إلا أنه من الخطأ أن نزعم أن هذه الكيانات جميعها تنظر إلى التحديات التي تواجهها المملكة، والفرص المتاحة أمامها، على الساحة العالمية بالطريقة نفسها. في الواقع، تتمثل أفضل طريقة لفهم بعض تجليات الجهود الدعوية الدينية الخارجية التي تبذلها المملكة على مدى عقود باعتبارها عملا من أعمال السياسة الداخلية وسباقا محموما بين بعض المؤسسات – مثل العائلة المالكة والمؤسسة الدينية – وفي داخل كل منهما. وعلى نحو مشابه، فإن الملحقين الدينيين في السفارات السعودية في العديد من الدول، الذين ينتمون في أغلب الأحوال إلى وزارة الشئون الإسلامية، عادة ما يُنظر إليهم بقدر غير قليل من التحفظ والتوجس من قبل وزارة الخارجية السعودية نتيجة قلق الأخيرة من أن الأنشطة الظاهرة التي يمارسها الملحقون الدينيون قد تثير أحيانا بعض التوتر مع الحكومات والسكان المحليين. وفي أغلب الأحوال لا يتجاوز هذا النشاط الديني محاضرات وندوات تعقد برعاية وزارة الشئون الإسلامية (وليس وزارة الخارجية) أو الندوة العالمية للشباب الإسلامي، التي لا تربطها علاقات وثيقة بالخطط والبرامج الجيوسياسية السعودية. رغم ذلك، في سياقات أخرى – خاصة فيما يتعلق بمواجهة النفوذ الإيراني – يبدو أن هناك توافق كامل بين كافة الجهات والهيئات السعودية. وإذا كان الإسلام الشيعي لا يعني سوى إيران لدى الغالبية الغالبة من السعوديين، والوهابية تناقض الشيعة، فإن الوهابية تصبح وسيلة ناجعة لمواجهة النفوذ الإيراني في جميع أرجاء العالم الإسلامي.

السعودية والنفوذ الإيراني

لكن.. ماذا يمكن أن نفهم من تصريح ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، أن تصدير المملكة العربية السعودية للوهابية على مدى العقود الماضية قد تم بناء على طلب من الولايات المتحدة الأمريكية لمواجهة التأثير السوفيتي في ذروة الحرب الباردة؟ يعترف جراهام فولر، أحد القيادات السابقة في جهاز الاستخبارات الأمريكية، أنه بوجه عام – على الأقل قبل الثورة الإيرانية في عام 1979 – كانت المؤسسة الأمنية الوطنية الأمريكية تحتفظ بنظرة طيبة للإسلام، “كان يُنظر إلى الدين بوجه عام على أنه رأس الحربة في مواجهة الشيوعية الملحدة ورافعة محتملة لإضعاف النظام السوفيتي؛ ومن ثم، كانت الولايات المتحدة الأمريكية تنظر بتعاطف إلى كل ما تقوم به المملكة العربية السعودية من خلال رابطة العالم الإسلامي”. بينما لا يدعم هذا سردية ولي العهد السعودي عن حملة تقودها واشنطن لاستغلال الوهابية كجزء من استراتيجيتها في الحرب الباردة، إلا أنه بوجه عام يتقاطع مع سرديات أخرى عن الدعم الأمريكي للقضايا الإسلامية كجزء من جهودها لتدشين حرب بالوكالة ضد الاتحاد السوفيتي. رغم ذلك، يبقى من الواضح أيضا أن الأنشطة الدعوية التي تمارسها المملكة تسبق – تاريخيا – خوض الولايات المتحدة غمار الدين الجيو استراتيجي، وأن المملكة قد انتهجت طرقا مختلفة سعيا وراء تحقيق مصالحها السياسية، والدعوية أيضا. بهذا المفهوم، تصبح دعوى ولي العهد السعودي بإمكانية اختزال عملية تصدير الدين من قبل المملكة في إطار تحالف استراتيجي بينها وبين الولايات المتحدة إبان الحرب الباردة بلا معنى.

يمكن تحميل الدراسة كاملة من هنا ?

أحمد بركات

باحث و مترجم مصرى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock