دار الكتب

خلق القرآن: المحنة التي شكلت صورة الإمام

شكلت محنة خلق القرآن الشهيرة في التاريخ الإسلامي نقطة انطلاق مركزية في صناعة الصورة النمطية للإمام المجاهد والمناضل المنافح عن السنة أحمد بن حنبل، بينما نالت إلى حد كبير من ايجابية الصورة النمطية لجماعة المعتزلة. تلك الجماعة العقلية التي تبنت القول بالخلق متسقة مع موقف السلطة ممثلة في الخليفة العباسي المأمون، وكانت سببا مباشرا في المحنة التي طالت إمام أهل السنة على مدار عهود ثلاثة من الخلفاء العباسيين بدءا بالمأمون ثم المعتصم، فالواثق.

 في كتابها (صورة الإمام.. في الخطاب الإسلامي الحديث) تسعى الدكتورة سعاد التميمي لتفنيد الصورة النمطية ليس للإمام أحمد بن حنبل فحسب، وإنما للمأمون أيضا الذي كان من وجهة نظرها صاحب مشروع في الخلافة يتفق مع ما ذهب إليه المواردي -فيما بعد- من اعتبار الخليفة ينوب عن النبي في حراسة الدولة والدين معا .فقد كان تلميذا لأبي الهذيل العلاف، وهو شيخ البصريين في الاعتزال، وهو بذلك كان له مشروع في العقيدة والسياسة دفعه لاستقطاب المعتزلة في بلاطه وطرد الفقهاء، ليقوموا على تنفيذه ومن ثم لم يكن المأمون كما سادت الرؤية التاريخية التي روج لها أنصار الإمام أحمد- مجرد العوبة في أيدي جماعة المعتزلة.

الكاتبة ترى أن المأمون ومن خلفه المعتزلة كانوا يحاولون الفكاك من تلك السلطة المطلقة التي اكتسبها أهل النص من القرآن والحديث ،على العقل والثقافة العربية، انتصر المعتزلة للعقل وقدموه على النص، وأعملوا التأويل في تناول النصوص الذي وقف منه مدرسة أهل الحديث موقف الرفض. بل ذهب ابراهيم بن السيار النظام إلى أبعد من ذلك حين نفى فكرة الإعجاز البياني للقرآن، ثم طرح المأمون قضية خلق القرآن، والتي كانت لها أصول في ديانات سابقة حيث اعتمدت اليهودية فكرة خلق التوراة.

وقد كانت قضية محنة خلق القرآن، والتي أمتحن فيها ابن حنبل، بمثابة تحد بين المدرستين، وإعلانا عن بداية مرحلة جديدة في التاريخ الإسلامي، وبينما صمد أحمد بن حنبل رافضا القول بالخلق، نتيجة زهده وورعه واتساقه مع مدرسته ومنهجه في التمسك بالنصوص، لم يجد المأمون بد من استعمال القوة والتعذيب ظنا منه قدرته على ثنيه. لكن ابن حنبل صمد حتى توفي المأمون، فجاء الخليفة المعتصم وقد كان أقل انحيازا وتحمسا للمدرسة الاعتزالية فضعفت شوكة أهل الرأي، لكنه استمر في تعذيب ابن حنبل الذي صمد حتى مات المعتصم وجاء الواثق، وقد كان أقل انتماء وحكمة من سابقيه واستمر في احتجاز ابن حنبل وتعذيبه للقول بخلق القرآن دون أن ينال مبتغاه.

ظلت هذه المحنة هي محور ومناط تناول شخصية ابن حنبل العالم والفقية على مدار القرون التالية، ونالت من التضخيم في الروايات ولدى كتاب التراجم الأقدمين منهم والمحدثين في شىء من التعاطف، ما انعكس على صورة الإمام أحمد بن حنبل الذي صار إماما لأهل الرأي والحديث، غير أن أحمد ابن حنبل في نظر الكاتبة “لم يكن ذلك الفقيه الورع البرىء، وهي الصورة التي روجها عنه أتباعه. بل كان طرفا فاعلا في الامتحان. قد أدلى برايه في القرآن متوسلا بالعامة، وآخذا بعين الاعتبار ثقلهم الاجتماعي والسياسي”

“وانتهت المحنة بانتصار رمزي لأحمد بن حنبل. وأضحى أحد رموز أهل السنة وفي أعلى هرمها نظرا لثباته على العقيدة. فما هي الأسباب الظاهرة والخفية لتأسيس مذهب نٌعت ب”الحنبلي”؟ وما هي المقاييس التي أعتبر على أساسها إماما؟ هكذا تتساءل الكاتبة.

مشهد من عمل درامي عن حياة الإمام أحمد بن حنبل

تتلمذ ابن حنبل على يد الإمام الشافعي، الذي شهد له بقوله “خرجت من بغداد وما خلفت رجلا أفضل ولا أعلم ولا أفقه ولا أتقى من أحمد بن حنبل” . وقد كانت شهادة الشافعي – بحسب الكاتبة- بمثابة تكليف لأحمد بن حنبل بالإمامة بعد اقحامه في المناظرات والجدل في مجالسه، وقد اعتمد ابن حنبل أصول الشافعي والتي كانت في نظره صالحة لكل زمان ومكان، وقداستها من قداسة النص القرآني.

تحاول الكاتبة إثبات أن ابن حنبل لم يكن يرى في نفسه قدرة على الإمامة، ونهى تلاميذه عن تدوين فتاواه، وقد تجنب العمل بالقياس تفاديا لأهل الرأي الذين كانوا خصومه التاريخيين، وقد حقق ابن حنبل انتصارا عكسيا نابعا من خطأ المعتزلة في استعمال العنف والتنكيل به، وهو ما استغله الانتصار تلاميذه الذين سبق له نهيهم عن تدوين فتاواه، فجمعوا هذه الفتاوى وأقاموا ذلك البناء الذي عرف بـ”المذهب الحنبلي”، وعوضوا فقر المذهب للفتاوى الخاصة بالمذهب وإمامه بمادة غزيرة من الأحاديث والأخبار رووها عن ابن حنبل، وقد ساعدهم ابن حنبل في ذلك حين كان يترك قولين في المسألة الواحدة، فنصيب متأخري الفقهاء الحنابلة  كإبن تيمية وابن القيم قد يفوق دور ابن حنبل نفسه، وقد ألبسوه الكثير من المواقف والفتاوى المتشددة، فقد اتخذت محنة ابن حنبل جزءا من التكوين النفسي لفقهاء المذهب الذين سيرون فيما بعد في السجن خلوة، وفي الإبعاد سياحة على حد قول ابن القيم الجوزية، وأصبح ابن حنبل ضحية صورة رُسمت له، كونها الحنابلة من شتات أفكاره التي قاموا بجمعها وتوسعوا فيها وأولوها، فأغلقوا باب التفكير في النص القرآني، وأصبحت ظواهر النصوص من باب العقائد المطلقة، وهو ما أدى إلى تعصب أتباع المذهب وتشددهم.

 مشهد من عمل درامي عن حياة الإمام أحمد بن حنبل

ففي كتابها (صورة الإمام في الخطاب الإسلامي الحديث) الصادر عن دار مصر العربية للنشر العربية في نحو 126 صفحة من القطع المتوسط. تنتهي الباحثة سعاد التميمي إلى دور المحنة في تشكل صورة الإمام أحمد بن حنبل، وانعكاسها على مفهوم الإمام بصورة عامة، ثم تلبس تلك الصورة للعديد من الأئمة الذين سيقيمون مذهبه ارتكازا على مشهد المحنة من ابن تيمية وحتى محمد بن عبدالوهاب، منطلقين من نفس المفاهيم في الانتصار للحديث ومعاداة الرأي والتأويل، وتقديس النص الذي انتقل من تقديس القرآن إلى تقديس الحديث دون تمييز بين القوي والضعيف فيه.

 غير أن الكاتبة تقيم فكرتها على الكثير من الافتراضات التي تحتاج إلى مزيد من الجهد في إثباتها قبل البناء عليها، واعتمادها كمسلمات. منها المشروع الفكري السياسي والعقدي الخاص بالخليفة المأمون، ومنها اشتغال أحمد بن حنبل بالسياسة وخوضه معركة خلق القرآن في سبيل الانتصار لمدرسته في مقابل الخصوم التقليديين من أهل الرأي، كذلك القول بتهافت المذهب الحنبلي الذي أقامه التلاميذ لا الأستاذ .. وغيرها من الأفكار المثيرة الجدل والتي نجحت الكاتبة في إثارتها.

بلال مؤمن

كاتب و محرر مصري
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock