منوعات

الناشط السياسي فى السينما المصرية.. من النضال إلى الإسفاف

احتفت السينما المصرية عبر تاريخها الطويل بنضال الشعب المصرى وكفاحه ضد الإحتلال الإنجليزى وضد فساد الملكية وتفاعلت وعبرت فى غير قليل من الأفلام عن تضامنها مع شخصية المناضل الذى يقاوم الإحتلال والبوليس السياسى فى عهد الملكية والتى تطورت إلى شخصية المعارض الذى يقاوم الاستبداد والقمع واكتسبت أبعادا جديدة فى عهود عبد الناصر والسادات ومبارك، لترسو أخيرا على شاطىء شخصية “الناشط السياسى” بعد ثورة 25 يناير، حيث مازالت المعالجة لفكرة الناشط السياسي مستمرة، على نحو يمكن معه من خلال تناول النماذج المختلفة للشخصية في السينما المصرية تقديم قراءة للتاريخ المصري الحديث منذ الحقبة الاستعمارية وإلى الآن.

إبراهيم حمدى وعلى طه

اتخذت شخصية الناشط السياسي في السينما المصرية منذ البداية شكلا أقرب إلى أن يكون نمطيا، فهو في الغالب شاب جامعي من أبناء الطبقة الوسطى، أو ريفي قادم إلى القاهرة في رحلة الحصول على الشهادة الجامعية، ثم بفعل واقع الاحتكاك بالحركة الثقافية، أو الشعور بالتمييز الطبقي ،يعلن سخطه على الأوضاع الاجتماعية  أو السياسية القائمة لكنه كان فى الغالب الأعم تنميطا مقبولا لأنه كان يستحضر دائما نماذج لها سماتها الوطنية والإنسانية الفريدة.

و ربما كان أول تجسيد إيجابي لصورة الناشط السياسي ودوره في دفع عجلة التغيير هي تلك التي قدمها الفنان عمر الشريف في فيلم (في بيتنا رجل) إنتاج عام 1961عن قصة الكاتب الكبير إحسان عبد القدوس، وإخراج هنري بركات، ويحكي الفيلم عن مناضل مصري “إبراهيم حمدي” , لعب دوره الفنان الكبير (عمر الشريف) قُتل قريب له خلال مظاهرة علي أيدي البوليس في الفترة الملكية، فيقرر الانتقام بقتل رئيس الوزراء الخائن الموالي للإنجليز، ويتم القبض عليه وتعذيبه حتي يدخل إحدى المستشفيات ولكنه يتمكن من الهرب لمنزل زميله الجامعي محيي زاهر (حسن يوسف) الذي لم يكن له أى نشاط سياسى هو أو باقى أفراد اسرته ومع ذلك وبحس وطنى مصرى صميم يقبلون بطيب خاطر تلك المغامرة الكبرى ويقررون إيواء  المناضل البطل إبراهيم حمدى الذى يرتبط بقصة حب كبيرة مع شقيقة محيى التى جسدت دورها الفنانة زبيدة ثروت، وتنتهى أحداث الفيلم بمقتل ابراهيم حمدى بعد أن غادر منزل محيى زاهر.

وقد حاول هنري بركات إعادة إنتاج هذه الشخصية، من خلال عمل آخر هو فيلم (الباب المفتوح) عن قصة الأديبة لطيفة الزيات وإنتاج عام 1963، حيث تدور الأحداث حول ليلى (فاتن حمامة) التي تعيش في أسرةٍ متوسطة، وتحاول أن تثور وتشارك في المظاهرات لكن والدها يكبحها بعنف ويعاقبها بشدة، وتصطدم بالعديد من التقاليد الاجتماعية البالية إلى أن تقابل صديق أخيها الثوري والمنفتح فتُعجب به، وينتهي الفيلم بلحاقها بالقطار المتجه بالمناضلين والمتطوعين لقتال الإنجليز في منطقة القناة.

لم يكن هنري بركات الوحيد الذي قدم شخصية المناضل الثوري، فقد لحقه صلاح أبو سيف في فيلمه (القاهرة 30)عن رواية نجيب محفوظ( القاهرة الجديدة)، وإنتاج عام 1966 بشخصية علي طه (عبدالعزيز مكيوي) المناضل الثوري اليساري الذي يقوم بتوزيع المنشورات السياسية ليطالب بالحياة الدستورية، والعدالة الاجتماعية وهو ما يعرضه  لمطاردات البوليس السياسي، وتغلب على شخصية على طه فى الفيلم المثالية  الشديدة والتفانى فى حب الوطن وكنهاية ابراهيم حمدى تكون نهاية على طه القتل بيد الانجليز والبوليس السياسى.

دعم الثورة

من الملاحظ أن الأفلام الثلاثة تم انتاجها في الحقبة الناصرية، وهي فترة أولى فيها النظام السياسي اهتماما خاصا بالسينما ودورها في صناعة الرأي العام وتوجيهه، وقد تجلى هذا الاهتمام في إنشاء مصلحة الفنون، والمؤسسة المصرية العامة للسينما عام 1958. ومن خلال تلك المؤسسات تدخلت الدولة في السينما بالرعاية والدعم والإقراض والتمويل، كما أن هذه الأفلام التي جاءت لتنتقد الفترة الملكية وتكشف فسادها، مّثلت دعما مباشرا لنظام ثورة يوليو، وتأكيدا على مشروعية الثورة والأسباب التي قادت اليها.

كانت السينما إذن تقدم نماذج لبطولات أمام نظام بائد منتهي الفاعلية. بينما في المقابل كان من الصعب للغاية تقديم أي أعمال تنتقد سياسات النظام القائم انذاك، حيث فرضت الدولة على المبدع والسينمائي العديد من أشكال الرقابة، بل دفعته لفرض الرقابة الذاتية على نفسه. وقد شهدت تلك الفترة منع العديد من الأعمال السينمائية مثل فيلم (الله معنا) ،على الرغم من أن إنتاجه كان بطلب مباشر من الزعيم جمال عبدالناصر لإحسان عبدالقدوس وفق ما يروي إحسان في مذكراته، كما أثارت الرقابة ضجة ضد أعمال مثل فيلم (شىء من الخوف) قبل أن يتدخل عبد الناصر شخصيا للسماح بعرض الفيلم.

نقد النظام

وفي أعقاب هزيمة يونيو 1967 حدثت انفراجة مهمة انعكست على جيل من السينمائيين المصريين الذين أسسوا ما عرف بمدرسة (الواقعية الجديدة في السينما العربية). وقد حاول هؤلاء توجيه النقد للنظام السياسي القائم من خلال أعمالهم السينمائية، لتظهر مرة أخرى شخصية المعارض أو الناشط السياسي وما يتعرض له في أعمال مثل (زائر الفجر) لممدوح شكري، بطولة وإنتاج ماجدة الخطيب عام 1969، وفيلم (ميرامار) لكمال الشيخ عن قصة نجيب محفوظ  وتم إنتاجه فى نفس العام، لكن الفيلمين أوقف عرضهما في دور العرض بعد فترة قصيرة.

 وكما انتُقدت الملكية في عهد ثورة يوليو وفترة عبدالناصر، فقد انتُقدت الناصرية في فترة حكم السادات، حيث  قدم علي بدرخان في فيلم (الكرنك) الذي أنتج عام 1975 نموذجا للنشطاء السياسيين، من خلال قصة مجموعة من الشباب الجامعي الذين يتم اعتقالهم لمجرد أنهم كانوا يلتقون على مقهى “الكرنك” الذي عرف عنه أنه تجمع لبعض المثقفين المعارضين للثورة.

 واللافت هنا ورغم القيود الرقابية فقد حافظت السينما طوال تلك الفترة التاريخية على الصورة الإيجابية للناشط السياسي، فهو الشاب المثقف الواعي والفدائي المهموم بقضايا وطنه وأوضاع مجتمعه، ويسعى من خلال الاعتراض السلمي والمشروع للتغيير.

صورة مغايرة

لكن هذا الأمر تغير في السنوات الماضية، لاسيما في السنوات التي أعقبت ثورة 25 يناير 2011، ففي كثير من الأفلام التي قدمتها سينما ما بعد 2011 تم رسم صورة نمطية جديدة للناشط السياسي، اتسمت بالسطحية الواضحة وتركيزها على الملامح الشكلية للشخصية دون التوقف عند مواقفها أو آرائها، كما أنها لم تخل من ميل للسخرية من شخصية هذا الناشط. وفي السنوات الأخيرة أصبحت شخصية الناشط السياسي تقدم ضمن نمطين: إما المثقف الطوباوي أو المثالي وغير الواقعي، والذي يثير سخرية المشاهدين بلغته المعقدة وألفاظه المقعرة وغير المفهومة، أو باعتباره شخصية هزلية ساخرة كاريكاتورية سطحية، على غرار  الشخصية التي قدمها الفنان أحمد عيد في فيلم (رامي الاعتصامي).

هذا النمط المثير للسخرية لشخصية الناشط السياسي يرى البعض أنه يأتي ضمن محاولات مقصودة للتشويه السياسي لهذه الشريحة من الشباب من خلال التجسيد السينمائي لشخصياتهم، إما كشخصيات هزلية مضحكة، أو شخصيات تعيش فى الأوهام وتعانى من جنون العظمة، أو تشويه صورتهم النمطية لدى الجمهور العربي من خلال بعض الأعمال السينمائية، كالدور الذى قدمته منة  شلبي في فيلم “بعد الموقعة” وهو لشخصية ناشطة سياسية تعمل في إحدى شركات الدعاية، تتعاطف مع أحد الأفراد المتورطين في “موقعة الجمل”، وتدخل في علاقة غرامية معه رغم أنه متزوج، وهو أمر أثار موجة من الغضب تجاه الفيلم وصناعه من النشطاء الذين طالبوا  بمقاطعته لأنه يسيء للناشطات. ومع ذلك  فإن هناك من حاول الحفاظ على تلك الصورة الايجابية للناشط السياسي، مثل الدور الذي قدمه الفنان عمر واكد في فيلم (18يوم) وأدى خلاله شخصية الناشط السياسي الذي يتعرض للتعذيب، ورغم ذلك ظلت إرادته صلبة، لتنهار أمامه إرادة الضابط الذي  يقوم بتعذيبه كما جاء في أحداث الجزء الثالث من فيلم “18 يوم”، والذي حمل عنوان “19-19”.

بلال مؤمن

كاتب و محرر مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock