رؤى

مستقبل التطرف الجهادي: من العالمية إلى المحلية

كتب: حسن حسن

ترجمة و عرض: تامر الهلالي

تقديم:

تسلط هذه الدراسة الضوء على التحول الاستراتيجي الذي طرأ على فكر وتوجهات الحركات الجهادية الإرهابية في السنوات الثلاث الأخيرة، ولا سيما ما يتعلق باستراتيجية استهداف العدو البعيد (والمقصود به هنا هو الغرب عموما). حيث لم يعد ذلك أولوية   بالنسبة للجهاديين، الذين أصبحوا يركزون على تعزيز نفوذهم في مجتمعاتهم المحلية.

ومن خلال رصد وتحليل التحولات التي جرت في طريقة تفكير وعمل قادة جبهة النصرة (فرع القاعدة في سوريا)، توضح الدراسة  التي أعدها الباحث “حسن حسن” والذي شارك في اعداد كتاب داعش من الداخل، أن أولوية استهداف العدو البعيد (أمريكا والغرب ) لم تعد استراتيجية مقدسة، كما كانت من قبل، وأن التوجه القائم منذ فترة هو التركيز على مقاتلة العدو القريب. وإذا كان المفهوم القديم للعدو القريب يضم الحكومات والمجتمعات الكافرة، فإنه أصبح الآن ، كما توضح الدراسة التي نشرتها مجلة “ذي أتلانتك” يقصد به الحكومات فقط، وهو ما يؤكده التوجه الثاني لتلك الجماعات التي تعلمت كيف تتفادى الصدام مع الأهالي المحليين. وتشير إلى أن ذلك  التحول يحدث في أكثر من دولة، ومن بينها اليمن والصومال ومالي وأفغانستان.Related image

الباحث: حسن حسن

وبينما تطرح الدراسة تساؤلات حول كيفية تعامل الولايات المتحدة مع هذا التحول الاستراتيجي في توجه واولويات الجماعات الجهادية، فإنها لا تتوقف كثيرا عن كيفية تعامل المجتمعات والحكومات العربية والإسلامية مع هذا التغير المهم. ولعل هذا ما يستدعى من الباحثين والمختصين العرب في هذا المجال، أن يحاولوا التركيز عليه، لفهم تداعيات مثل هذا التحول في طريقة عمل الجماعات الجهادية على المشهدين السياسي والأمني في البلدان التي تشهد صعودا وتأثيرا لهذه الجماعات، وكيفية التعامل معها سواء من جانب الحكومات أو المجتمعات؟

وسبق أن نشر موقع “أصوات أونلاين” مقالا مشابها يرصد التحولات في فكر وسلوك حركة طالبان الأفغانية، بما يعزز ما جاء في هذه الدراسة.

أصوات أونلاين

وإلى نص الدراسة:

 لعقود طويلة من الزمان شكل كل من الإرهاب العابر للحدود، والتفجيرات الانتحارية، والتكفير، الأركان الثلاثة التي استند اليها   التطرف الجهادي. هذه الأركان الثلاثة لم تثر غضب حكومات الولايات المتحدة وأوروبا فحسب، بل نفرت العديد من العناصر المستهدفة من الجهاديين، وبالتحديد المسلمين السنة في العالم الإسلامي.

ومع ذلك فإن هناك مؤشرات على أن” المتطرفين السنة” بدأوا في تغيير أساليبهم ، ويبتعدون عن الأجندة العالمية، التي وصلت إلى ذروة نجاحها في هجوم تنظيم القاعدة على مركز التجارة العالمي في نيويورك. هذا التغيير ينحو إلى اتجاه مغرق في المحلية، حيث لن يركز الجهاديون في المستقبل على تصدير العنف للغرب، ولكن على بناء النفوذ في مجتمعاتهم المحلية. ويحدث هذا التحول على نطاق واسع وفي بلدان مختلفة، بما فيها أفغانستان واليمن ومالي.

Related image

جبهة النصرة كنموذج

تمثل جبهة النصرة، فرع القاعدة في سوريا، مثالاً على كيفية تغير وجهة التهديد الجهادي في جميع أنحاء المنطقة. ففي عام 2016، وضعت جبهة النصرة دليلاً تدريبياً مطولاً لمجنديها الجدد. في هذا الكتاب، الذي يتألف من 200 صفحة تقريباً، تروج الجماعة لمزايا الجهاد المرتكز على الدولة التي يتواجد فيها المجاهدون وتفوقه على الجهاد العالمي العابر للحدود.

 ومن خلال هذا الدليل التدريبي, تنصح الجماعة أتباعها بأن استراتيجية القاعدة المعلنة المتمثلة في ملاحقة “العدو البعيد” ليست مقدسة، وأنه في اللحظة الراهنة، سيكون التركيز على أي شيء آخر غير القتال المحلي “إلهاء غير مقبول”.

وقد وضعت جبهة النصرة هذا الأمر النظري موضع التنفيذ. حتى أن زعيمها، أبو محمد الجولاني، تعهد في مقابلة مع قناة الجزيرة في مايو / أيار 2015 بعدم استخدام سوريا كقاعدة انطلاق للجهاديين لمهاجمة الغرب، استناداً إلى أوامر القيادة المركزية للقاعدة. علاوة على ذلك, أنشأت المجموعة مكتبًا سياسيًا وتواصلت مع دول بما في ذلك تركيا لتسويق نفسها كشريك موثوق، لا يشكل تهديدًا لأي شخص خارج سوريا.

في الوقت نفسه، نأت الجماعة بنفسها قليلا عن الدعامتين الأخريين في الفكر الجهادي العالمي وهما التفجيرات الانتحارية والتكفير، بغية عدم إبعاد السكان المحليين.وقد أصدرت جبهة النصرة، بحسب مصادر من الداخل، لم ترغب في الكشف عن هويتها، تعليمات داخلية تأمر قادتها بالامتناع عن استخدام الهجمات الانتحارية كلما أمكن ذلك، والامتناع التام عن استهداف المناطق المدنية. وعلى نحو مماثل، حظرت جماعة “أحرار الشام”، وهي جماعة سلفية جهادية  قريبة من جبهة النصرة، التفجيرات الانتحارية في الأيام الأولى من النزاع.

دول وجماعات أخرى

كان الاستخدام المحدود للتفجيرات الانتحارية شائعا أيضاً خارج سوريا، بما في ذلك في اليمن وليبيا. ويبدو أن الهجمات الانتحارية كانت محل تأييد كبير من الجهاديين في أعقاب الغزو الأمريكي للعراق، لكن هذا التأييد تراجع الآن بشكل كبير – باستثناء بعض الهجمات التي ارتكبها تنظيم الدولة الإسلامية(داعش).

في السياق نفسه يشهد مبدأ التكفير أيضاً حالة تراجع، حيث توصلت الجماعات الجهادية إلى التطبيق العملي لمواءمة أنفسهم مع المعتدلين النسبيين بدلاًمن حالات الشقاق والصراع التي تفرض نفسها كلما أصبح الاختلاف الفقهي في الرأي واضحا.

وبعيداً عن سوريا، بدا فصيل القاعدة في اليمن أقرب إلى الوطن في أعقاب الانتفاضة المناهضة للحكومة في عام 2011، والحرب التي شنتها المملكة العربية السعودية ضد الحوثيين في عام 2015. و فيما يخص فصيل القاعدة في جزيرة العرب، الذي كان يعتبر الفرع الأخطر في دوره في الإرهاب الدولي، فقد حكم حضرموت لمدة عام كامل؛ ويبدو أن هذه التجربة قد جعلتهم منشغلين ومنخرطين أكثر في الديناميكيات المحلية.

في عام 2017، أخبرت الجماعة صحيفة نرويجية أنها تخلت عن العمليات الدولية وتوقفت عن تجنيد مقاتلين أجانب كجزء من اتفاق مع زعماء قبليين ودينيين محليين.

ضرورة استراتيجية

يمكن لبعض المراقبين والمحللين وصف هذه التغييرات على أنها محدودة أو مؤقتة، لكن هناك سببين للاعتقاد بأنها تمثل اتجاها حقيقيا.

أولاً: تطور نهج الجهاديين السُنة محلياً منذ الاضطرابات الجيوسياسية التي شهدتها المنطقة في عام 2011.. حيث أغرقت الانتفاضات الشعبية في أنحاء المنطقة الجهاديين في عمق الصراعات المحلية, وكان على الجماعات المتطرفة أن تستجيب بسرعة للأحداث المتغيرة بسرعة، وهو ما يعني أنها لا تستطيع دائما أن ترفع تقاريرها إلى الأيديولوجيين أو القادة الجهاديين الذين يعيشون في أماكن أخرى. كان ذلك تغييرًا جذريًا عن الطريقة التي اعتاد الجهاديون العمل بها. فقد كان قادة الجيل الأول في معظمهم ينتمون إلى حركة طليعية قادها المتطرفون العقائديون الذين أرادوا ملاحقة “رأس الأفعى”، كما وصف أسامة بن لادن وآخرون، الولايات المتحدة وحلفاءها الغربيين.

و قد يبدو ظهور تنظيم الدولة الإسلامية في عامي 2013 و 2014 وكأنه مثال مناهض لهذا التوجه المائل إلى المحلية, لكن ما حدث في الواقع، أن راديكالية هذه الجماعة وطموحها العالمي تسببا في شيء من ردة الفعل بين الجهاديين السنة الآخرين، الذين سعوا إلى تمييز أنفسهم عن المتشددين من خلال الاعتدال النسبي والمحلي. ومع تقلد داعش السلطة، وانهيارها فيما بعد، واصلت مجموعات سنية أخرى استراتيجيتها المحلية، مما يشير إلى أن التوجه المحلي نشأ عن قناعات عميقة، ولم يكن تغيرا سطحيا أو مجرد حيلة تكتيكية.

في السنوات القليلة الماضية، بدأ الجهاديون السنّة يتبنون تحالفات عابرة للأيديولوجية في دول مثل سوريا وليبيا، لكن هذه المرة تم وصف التحالفات بأنها نماذج “تصحيحية” أو “إصلاحية”. وكانوا خلال قيامهم بذلك يدعون إلى الابتعاد عن “جهاد النخبة” الذي يقزم الشعوب، ودعوا إلى “جهاد الشعب” الذي يحترم المجتمعات المحلية ويعكس أولوياتها.

ارتباط بين التطرف السني والشيعي

ثانياً : تطور المناضلون الشيعة الموالون لإيران بهذه الطريقة منذ عقود قليلة، من العالمية إلى المحلية, فمن بين المتطرفين الإسلاميين، كانت الجماعات الشيعية رائدة في الإرهاب العابرللحدود الوطنية والتفجيرات الانتحارية. ففي أكتوبر 1983، أدت الهجمات الانتحارية المزدوجة التي نفذها ما أصبح حزب الله في بيروت، إلى مقتل 241 من أفراد القوات الأمريكية و 58 من الجنود الفرنسيين. وبعد شهرين، قام حزب الله اللبناني وحزب الدعوة الإسلامي في العراق بعملية انتحارية مشتركة في الكويت، استهدفت ستة منشآت أجنبية ووطنية، كما تورطا في هجمات إرهابية أخرى ضد البعثات الدبلوماسية والثقافية في العديد من البلدان. وقد كان استخدام إيران لكتيبة انتحارية للأطفال، عبر حقول الألغام العراقية خلال الحرب العراقية الإيرانية، من 1980 إلى 1988، أكثر الأمثلة المروعة والشعبية على التكتيك. في الثمانينيات، على النقيض من ذلك، لم يفجر نفسه سوى متطرف سني واحد, حتى في ذروة الجهاد في أفغانستان.

لكن مع مرور الوقت، تخلت الجماعات المسلحة الشيعية عن التفجيرات الانتحارية، حيث أصبحوا يرون أنها تأتي بنتائج عكسية. (في إسرائيل على وجه الخصوص، كان التكتيك قد أضر بسمعة القضية العربية). كما تحولت مجموعات مثل حزب الله في لبنان، والحوثيين في اليمن، وغالبية الميليشيات الشيعية في العراق من الإرهاب العابر للحدود إلى نهج أكثر محلية، والتسلل ثم الهيمنة على السياسة المحلية. لقد مكنت هذه الاستراتيجية الجماعات الجهادية الشيعية من النمو والسيطرة في بلدان متعددة، حتى في الحالات التي يكون الشيعة فيها أقلية. وبالطبع فإن هذا التحول لم يكتمل، فإيران تستخدم، بشكل معلن، الجماعات الجهادية كوكلاء في دول أخرى. لكن التشدد الشيعي المدعوم من الدولة ليس تماماً مثل حملة إرهابية دولية ترعاها وتنظمها طليعة راديكالية بلا جنسية. لذلك يبدو هذا وكأنه نمط: الجهاديون الشيعة يتبنون التفجيرات الانتحارية، فيحذو الجهاديون السنة حذوهم.. يرفض الشيعة التفجيرات الانتحارية ويتجهون نحو استراتيجية محلية، فيحذو أتباع السنة حذوهم . لقد تمسك الشيعة بجدول أعمالهم المحلي، وهناك كل الأسباب التي تجعلهم يتوقعون أن يفعل السُنة الشيء نفسه.

طرق المواجهة

تحتاج الولايات المتحدة إلى التكيف مع الطبيعة المتغيرة للتهديد الجهادي. لن يركز الجهاديون الجدد على تصدير العنف إلى الغرب، بل على التسلل إلى المجتمعات المحلية وبناء التأثير. يمكن أن تهيمن الجماعات المتطرفة السنية الشبيهة لـ”حزب الله” على المشهد المتطرف المستقبلي ، بما يعني تلك الجماعات التي لديها التصميم على خوض حرب طويلة، لكنها عالقة في صراعات محلية. وتعد الطريقة المثلى لمواجهة هذه الحركات الناشئة هي تفعيل مشاركة أعمق مع السلطات المحلية لوقف نفوذها على المستوى المحلي. من الناحية العملية، يجب أن تتضمن الاستراتيجية دعمًا وإشرافًا أمريكيين متسقين وطويلي الأجل مع الحكومات لملء الفراغ في المناطق المضطربة. ولكن بعد مرور 18 عامًا على بدء الحرب على الإرهاب، ليس لدى واشنطن أي شهية لمثل هذا الارتباط. ومن المرجح أن يواصل الجهاديون السنة تعديل تكتيكاتهم لتعميق وجودهم في المنطقة، كما فعل نظرائهم الشيعة من قبل.

تعريف بالكاتب:

 حسن حسن كاتب في مجلة “ذي أتلانتيك” والمؤلف المشارك لـكتاب ISIS: Inside the Army of Terror (داعش: داخل جيش الإرهاب).

يمكنك الاطلاع على النص الأصلي للمقالة

تامر الهلالي

مُترجم وشاعر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock