منوعات

أبعد من الإقتصاد وأقرب إلى الحياة: مفارقة الماس والماء

تخيل أنك فزت في مسابقة ما، وكان عليك اختيار: إما قطعة من الألماس أو زجاجة من الماء كجائزة، بدون أي تفكير ستختار قطعة الألماس، الخيار سهل هنا لأن الماس أعلى قيمة من الماء، ولكن دعنا نتخيل مرة أخرى أن الخيار نفسه عُرض عليك، لكنك لست في مسابقة هذه المرة، وإنما في الصحراء تهيم على وجهك منذ عدة أيام وتشعر بالجفاف واقتراب النهاية، هل سيكون اختيارك في هذا السياق مختلفا؟ ولماذا؟ رغم أن الماس مازال أغلى من الماء؟

هذه المعضلة التاريخية التي تواجه البشر منذ قديم الزمن، تُعرف باسم “مفارقة القيمة” وقد عرضها عالم الاقتصاد الرائد “آدم سميث” في كتابه “ثروة الأمم”.

القيمة والمنفعة

تكشف تلك المفارقة عن أن تعريف القيمة ليس بالسهولة التي يبدو عليها، ففي سيناريو المسابقة تم التركيز على “القيمة التبادلية” للماء والماس، أي ما الذي يمكنك الحصول عليه لاحقًا من خلال بيعهما أو الاستثمار فيهما. أما في سيناريو الصحراء فقد غلبت “القيمة الاستعمالية”، أي إلى مدى يمكن لتلك الأشياء أن تكون مفيدة لمساعدتك في موقفك الحالي.

ولأن عليك أن تختار بين أحد الخيارين فقط، يجب أن تضع في اعتبارك “تكلفة الفرصة البديلة”، فعلى الرغم من أن اختيارك للماء في سيناريو الصحراء سيجعلك تخسر قطعة الألماس، التي يمكنك بيعها بمئات الآلاف من الجنيهات لاحقًا، إلا أن ذلك أفضل من أن تخسر حياتك بسبب العطش ولا تحصل على أي شىء على الإطلاق.
وقد نجح الاقتصاديون المعاصرون في حل تلك المعضلة من خلال مفهوم “المنفعة”، أي إلى أي مدى يمكن لشيء ما  أن يلبي احتياجاتنا، وهو ما يمكن تطبيقه على كل شىء في حياتنا، بداية من حاجتنا الأساسية للأكل مثلًا، وحتى رغبتنا في سماع أغنية معينة نستمتع بها، و هذا أمر  يختلف – بطبيعة الحال- وفقًا لاختلاف الأشخاص والظروف، وأبسط طريقة لقياس المنفعة هي بمعرفة إلى أي مدى أنت على استعداد لدفع أموال لشراء شىء ما.

تناقص المنفعة

فإذا ما عدنا الآن إلى موقف الصحراء، ولكن في هذه المرة عُرض عليك الاختيار بين زجاجة من الماء أو قطعة من الماس كل خمس دقائق، فإن معظم الأشخاص سيأخذون في البداية ما يكفيهم من الماء، وبعدها سيجمعون أكبر عدد ممكن من قطع الماس. وهذا الاختيار يعود إلى ما يسمى ب”المنفعة الحدية”، وهي مقارنة قيمة كل وحدة إضافية من الخيارين. فعلى الرغم من أن أول زجاجة ماء أكثر قيمة من كل الماس، إلا أنه في النهاية سيكون معك ما يكفي من الماء لاستكمال رحلتك، وبالتالي ستكون كل زجاجة ماء إضافية عبئا عليك، وعندها ستبدأ في اختيار الماس.

تلك المفاهيم التي تتعلق بالمنفعة وقيمة الأشياء، تفسر لنا جوانب حياتية أبعد من الاقتصاد، ففي معظم الأشياء كلما حصلنا على المزيد كلما أصبح الأمر أقل فائدة واستمتاعًا فيما يعرف بقانون “تناقص المنفعة الحدية”.

فعلى الرغم من أنك ستكون سعيدا بشرائك تذكرة لمشاهدة فيلمك المفضل مرة أو اثنتين أو حتى عشرة، إلا أنك في النهاية ستمل منه تدريجيًا حتى تصل إلى نقطة تكون منفعتك من شراء تذكرة إضافية لمشاهدة الفيلم صفرا.

لماذا الماء أرخص من الماس

وعلى الجانب الآخر يمكن لمفارقة القيمة أن تفسر لنا الفجوة الضخمة في أجور لاعبي كرة القدم والممثلين وغيرها من الوظائف في عالم الترفيه، مقارنة مثلا بالأطباء والمعلمين والمهندسين وغيرها من المهن الأساسية. فعلى الرغم من أن أغلى لاعب كرة قدم في العالم يمكن أن تستمر الحياة بدونه تمامًا  كالألماس، إلا أنه يتقاضى ملايين الدولارات. في الوقت نفسه تتوقف حياتنا على وجود الطبيب الذي بدونه قد يفقد الناس أرواحهم، أو المعلم الذي ينقل المعرفة إلى أولادنا، وغيرها من المهن الضرورية جدًا لاستمرار الحياة تمامًا كالماء، إلا أن مرتبات هؤلاء قد تكون هزيلة جدًا، ويرجع ذلك إلى الندرة والعائد.

فمن النادر وجود لاعب كرة قدم موهوب ومحترف على مستوى العالم، في حين يوجد الكثير من الأطباء والمهندسين والمعلمين وغيرهم من الوظائف التقليدية. علاوة على ذلك، فإن اللاعب المحترف يجذب ملايين المتابعين لناديه، إضافة إلى الإعلانات والجوائز، وهو ما يدفع بالأندية للتنافس على ضمه من خلال عرض مبلغ أكبر، لأنهم على ثقة من أنهم سيستردون تلك المبالغ أضعافا مضاعفة، في حين أن المعلم أو الطبيب لن يدر تلك المبالغ على جهة عمله، كما يمكن استبداله

الأمر إذن له علاقة بالعرض والطلب، فعلى الرغم من زيادة الطلب على الماء، إلا أن المعروض منه أكثر، ورغم قلة الطلب على الماس، إلا أن المعروض منه أقل. بالإضافة لذلك فإن تكلفة استخراج الماس أعلى بكثير من الماء، ومع ذلك يدفع الناس في كثير من الأحيان أموالا أكثر للحصول على المنتجات الأغلى، فقط ليستمتعوا بذلك. فأحيانًا لا يتمكن الناس من التمييز بين المنتجات، لذا يستخدمون السعر لقياس فروق الجودة، فليس دائمًا تكون الأشياء مرتفعة الثمن لأننا نرغب فيها، وإنما نرغب في بعض الأشياء أحيانا ،لأنها مرتفعة الثمن.
هذا السلوك مرتبط  دائما بسلم الاحتياجات، فبعد تلبية احتياجاتنا الأساسية، نبدأ بشكل تلقائي في الاستثمار من خلال خياراتنا التي إما أنها تكون مفيدة أو ممتعة، ولكن القيمة  الحقيقية  الأهم من أي مكتسبات خارجية، تكمن في ذواتنا. فما نتشاركه من احتياجات، أو ما نستمتع به، أو حتى ما نختاره من أشياء أو منتجات، لا يرتبط، بالضرورة، بسعرها في السوق، أو مقدار العرض والطلب عليها، وإنما يتعلق بكيف نراها ،وإلى أي مدى تؤثر على حياتنا.

*تم الاعتماد في إعداد هذه المقالة بشكل رئيسي على هذا الفيديو 😕

المصادر الإضافية:

How can marginal utility explain the ‘diamond/water paradox’?

WHY TEACHERS MAKE LESS THAN PRO ATHLETES (THE PARADOX OF VALUE)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock