ثقافة

حكايات أمهاتنا في «سهراية ليل»: خيال جميل يهزم قبح الواقع

ما زلت أذكر تلك الرهبة التي لطالما عمدت والدتي إلى بثها في نفسي كلما تمردت على محاولاتها دفعي إلى الفراش لأغط في سبات عميق، كانت كلماتها غير المفهومة بصوتها المرتجف تثير في نفسي خوفا وقلقا عظيمين، يتبعهما صمت مطبق ونوم هانىء (أصمت وإلا أتتك بركة الله والعافية)، لم أكن أعرف ما الذي تعنيه تلك الكلمات، وربما لو قالت (أمنا الغولة) لكان أوقع، لكنها بقلب الأم لم تكن تتمنى لوليدها في ذلك العمر أكثر من أن تحفه البركة، وتشمله الصحة والعافية.

اعتاد أهل القرى في مصر أن يتسامروا حول مواقد النار في الشتاء، ومساقط الهواء صيفا. لاسيما في الليالي دامسة الظلام.. والحاضر دوما فى تلك الأسمار حكايات الجن والعفاريت، ولكل قرية حكاياتها وتراثها الخاص، وقد تتعرض حكاية واحدة لاختلاف في بعض التفصيلات والمؤثرات حسب روايتها من قرية لأخرى، فتطبعها كل قرية بطابعها الخاص، لكن يظل أبطال الحكايات كما هم سواء في السير الشعبية (كالزيني بركات، أو أبو زيد الهلالي) أو أقاصيص الرعب من قبيل (أبو رجل مسلوخة، أمنا الغولة، عروس البحر، أبو رجل ماعز)، وغيرها من الحكايات المحفوظة عن ظهر قلب لكل طفل شرد بخياله إلى حكايات الجن والعفاريت، وحكايات الأماكن المرصودة.

Image result for ‫حكايات أمهاتنا‬‎

الانتصار للإنسانية

تمتاز حكايات التراث الشعبي بالعديد من الأهداف التي قد تصدر عن وعي أو من خلال اللاوعي الكامن في الضمير، ففي حكاياتها التسلية والترفيه وفسحة خيال في ظلمة الليل الذي يحول بينهم وبينه صخب النهار، والتزامات الواقع ومتطلبات الحياة، وفيها الانتصار للخير وتحقيق النهايات السعيدة لقصص عشاق تكالبت عليهم الموانع، وفيها الانتصار على بطش كل ذي سلطة سواء كان مصدر تلك السلطة سياسيا أو اجتماعيا أو دينيا، ووسط زخم الموروث والتراث الديني تبدو الحكايات الشعبية هي الأكثر تعبيرا عن الهوية والمزاج الشعبي، والتكوين النفسي المنحاز للاحتياجات والآمال والأحلام الإنسانية بصرف النظر عن القيود الدينية والاجتماعية والسياسية، فبطل الحكاية إنسان لا يُسأل عن دينه، وأحلامه إنسانية لا تعرف الطبقية أو تنتصر عليها حين ينجح البطل الفقير على سبيل المثال في الظفر بحبيبته التي تنتمي لطبقات الأثرياء.

وتنتصر الحكايات الشعبية للإنسان وتزيد من مساحة قدراته بحيث يصير قادرا على الطيران، أو المشي على الماء او السماع رغم بعد المسافات، وقد يدك الجبال ويجوب ويغوص في أعماق البحار، أو يظهر له ريش ويتمكن من الطيران، كما تفتح أفقا جديدا للعالم ذاته بحيث يكون هناك “عالم سفلي” يعبرون عنه بـ(بتوع تحت) يمكن أن يصطحبوا أو يختطفوا أحد أبناء الإنس، و”آخر علوي”، ويطول النخل ويقصر بحسب رغبة البطل، ويتحول الماء إلى جماد عند حاجة البطل إلى المرور عبره، ويكثر ظهور كائنات غير طبيعية قادرة على الإيذاء كالغول، والعنقاء وصور وعناصر سحرية مثيرة كالدم والبخور.

وكما يقول أحد الباحثين فإن الشعبيين يدخلون إلى “الحكاية “مدفوعين بأحلام تملك العالم عن طريق الحكي، من خلال إعادة تشكيله بطريقة جديدة تلبي طموحاتهم وأحلامهم، وتعوض حرمان الواقع وشروطه القابضة على حياتهم، وفي ظني فإنه يمكن إعادة قراءة التاريخ من خلال اكتشاف العوامل المؤثرة في مسار حياة الشعوب المختلفة والمتعاقبة من خلال رصد وتوثيق تراثها  الشعبى من الحكايات والسير، وهي مسألة لم تفت على بعض الباحثين النابهين، فقد نجح الباحث في التراث الشعبي “فارس خضر” – وهو صحفى وشاعر معروف أيضا – في جمع وتوثيق الحكايات الشعبية في واحدة من الواحات المصرية العريقة، وهي واحة (الداخلة)، حيث انتهي إلى رصد نحو مائة حكاية شعبية تنتمي إلى تراث واحة الداخلة في صحراء مصر الغربية، فى كتاب أصدرته الهيئة العامة للكتاب بعنوان (سٍهراية الليل).

الكاتب “فارس خضر” وكتابه سهراية الليل

و(سهٍراية الليل) مزيج من الحكايات الشعبية المختلفة شملت العديد من العناوين مثل (سراية الطاحونة، أحمد الغول، سراية اليهودي، عروسة البحر، صباع فطيمة، الأعمى واخواته الستة، البنت إللى طارت، بنت بنوت، كل يوم برزقه، دعوة مظلوم، قبر الدرويش، زقاق ليلى، أمنا الغولة) وغيرها العشرات من الحكايات التي تجمع بينها عدد من السمات الخاصة، وتؤكد على بعض المبادىء والقيم الريفية العامة كانتصار الخير والحق في النهاية مهما طال الزمن، وانتصار الحب، والثقة في لطف الله وقضائه وقدره، والتوكل على الله في الرزق والمعاش.

في (سهراية الليل) لاحظ المؤلف عددا من السمات العامة التي جمعت بين الحكايات الشعبية كالنهايات السعيدة، واعتقادهم في نوع من المعرفة الصوفية الإشراقية التي تبلغ لديهم من الثقة حدا يفوق الوثائق الرسمية، والإيمان بحتمية انتصار القيم الإيجابية على غيرها من القيم السلبية، ثم أن كثيرا من تلك الحكايات الشعبية هو عبارة عن عملية إعادة إنتاج لقصص(ألف ليلة وليلة) مع تبديلات في الصياغة، وإضافة بعض الخصوصية التي تميز المنطقة الجغرافية.

التراث الشعبي من الحكي يحمل مخزونا كبيرا من الثقافة والاعتقادات الشعبية التراثية التي تتبدل بفعل تغير الزمن والبيئة الجغرافية، وتطور سرديات وأساليب وأدوات الحكي، والحفاظ على هذا التراث الشفهي ومحاولة توثيقه هو أمر ضرورى ولازم تأخذ به الأمم الناضجة للحفاظ على هويتها وخصوصيتها ومخزونها الثقافي.

بلال مؤمن

كاتب و محرر مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock