رؤى

التصوف ودعوات الإصلاح والتجديد(1-2)

واجه التصوف على مدار تاريخه العديد من دعوات الإنكار والرفض سواء من حيث المنهج أو الممارسة، إلا أن حالة التماس ما بين المنهج الصوفي الإسلامي والعديد من الشعوب الحضارية القديمة حول كثير من المعاني الروحية- مهد الأرض لصمود المنهج الصوفي الإسلامي بممارساته التعبدية الروحية والطقوسية، على الرغم من محاولات مستميتة لنقد وتفنيد هذا المنهج من قبل خصومه التقليديين.

يبدو ذلك جليا لدى بعض الشعوب التي احتفظت في ذاكرتها الدينية والثقافية بفائض من المعرفة الروحية في مرحلة ما قبل الإسلام، كالحضارة المصرية التي شهدت في عهد الرومان نشأة مدرسة الإسكندرية في الفلسفة والمعروفة بالحقبة الهلينستية في الفلسفة اليونانية، والحضارة الفارسية المعروفة بفلسفتها الروحية العميقة.

ولعل هذا التماس هو ما جعل العديد من الباحثين يسعون لإثبات استنساخ تجربة التصوف الإسلامي من التجارب الصوفية للحضارات والديانات القديمة، كالبوذية والزرادشتية وحضارات بلاد فارس القديمة، متغافلين عن عامل مهم، هو التشابه الطبيعي بين التجارب الإنسانية في سعيها الحثيث لاكتشاف المطلق –بتعبير الفلاسفة- أو الوصول والعرفان بالله بتعبير المتصوفة.

كانت المدرسة السلفية في الفكر الإسلامي أقوى خصوم المنهج الصوفي ابتداء من الإمام أحمد بن حنبل، ومرورا بالإمامين ابن تيمية، وابن القيم الجوزية، وانتهاء بمحمد بن عبدالوهاب، وأتباعهم الذين ما زالوا يشنون حربا ضروسا على التصوف والصوفية.

غير أن ثمة نقدا ذاتيا وُجه للممارسات الصوفية من داخل البيت الصوفي ذاته في محاولة لإصلاح المنهج الصوفي، وإزالة الكثير من البدع والخرافات والميثولوجيا الدينية التي لحقت به نتيجة التعلق الشديد بشخصيات الأولياء، والمبالغة في إظهار حبهم وتقديرهم الذي يصل أحيانا إلى حد التقديس. يضاف إلى ذلك ضحالة المستوى الثقافي للغالبية الغالبة من أبناء الطرق الصوفية، وتخلي الطرق الصوفية عن شرط التيقن من علوم الشريعة قبل التحلي بأخلاق ومجاهدات أرباب الحقيقة.

هذه الأمور لطالما أكد عليها أئمة التصوف ومؤسسو المنهج أنفسهم، فقد نقل عن الجنيد شيخ الطائفة قوله (الطرق كلها مسدودة عن الخلق إلا من اقتفى أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتبع سنته ولزم طريقته، لأن طرق الخيرات كلها مفتوحة عليه، وعلى المقتفين أثره والمتابعين)، كما قال (من لم يحفظ القرآن، ولم يكتب الحديث لم يُقتد به في هذا الأمر، لأن عملنا هذا مقيد بالكتاب والسنة).

كما انتقد الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي في رسالته (روح القدس في مناصحة النفس) بعد رحلته من بلاد الأندلس إلى بلدان المشرق الإسلامي- سلوك المدرسة المشرقية في التصوف، التي أطلقت أيدي العوام في عبادات خواص القوم، وفتحت الباب للكثير من الادعاءات والممارسات والبدع.

ولابد أن ما نقل عن الجنيد وغيره من كبار أهل الطريق لم يكن مصادفة، وإنما كان تصحيحا لإنحراف قائم، ومحاولة لترسيم معالم الطريق. ولم تتوقف دعوات التجديد والإصلاح عند السابقين من المتصوفة، فهناك العديد من دعوات الإصلاح والتجديد المعاصرة التي تحاول تنقية التصوف مما علق به من شوائب وإنحرافات.

 

عبدالحليم محمود ..ونقد التصوف المعاصر

لم تخل الصوفية المعاصرة، التي أدركت مجافاة بعض الممارسات والسلوكيات لأبناء الطرق الصوفية لروح العصر، من محاولات النقد الذاتي بهدف إصلاح البيت من الداخل، ففي كتابه “المدرسة الشاذلية” دعا الإمام عبد الحليم محمود – شيخ الأزهر الأسبق- مشايخ التصوف وأتباع المنهج الصوفي إلى التمسك بالشريعة، والتقيد بحدودها، والتمسك بآداب السلف الصالح من الصوفية في أحوالهم ومواجيدهم، واعتبر إدعاءات التحلل من الشريعة، والالتزام بقيودها، افتئاتا على التصوف، وادعاء باطلا من قبل بعض الأدعياء. فتحت عنوان (التصوف والتحلل من الشريعة) كتب الإمام عبد الحليم محمود يقول “في كل ميدان من الميادين نجد الأدعياء، نجدهم في الميدان الديني، وفي الميدان السياسي، وفي الميدان العلمي، ونجدهم كذلك في ميدان التصوف، وهدف هؤلاء الأدعياء معروف.. إنه الاستفادة المادية من أقصر الطرق، وكما لا يضر الدين، ولا يضر العلم، أن ينتسب اليه الأدعياء المزيفون، فكذلك الأمر فيما يتعلق بالتصوف”

وقد هاجم الشيخ عبدالحليم محمود ما يحاول بعض الأدعياء من المتصوفة ترويجه عن قدرتهم على تسخير الجن والشياطين باعتبارها كرامات ناتجة عن الولاية. وفي هذا يقول: “انتشرت بدعة تحضير الأرواح في وسطهم، يتحدثون عنها مٌمسين ومصبحين، حتى لقد أصبحت دينهم الذي لا يدينون بغيره، ولا يتلقون الوحي عن سواه(…) ،ومن الغريب أنهم يدعون انتسابهم إلى التصوف، ويزعمون أنهم من كبار الصوفية، ومن أساطين العارفين، ومن عباقرة الٌملهمين”.

كما هاجم الإمام عبد الحليم محمود محاولة أصحاب البدع من أدعياء التصوف- التحلل من التكاليف الشرعية، ويراها بدعة قديمة، وليست من اختراع متصوفة العصر الحديث ،فليس لهم حتى حق السبق في الباطل على حد تعبيره.

وفي نقده لواقع التصوف الإسلامي اعتمد الشيخ عبدالحليم محمود منهجية تقوم على قياس واقعه على تاريخ مواقف وأراء مؤسسي المنهج الصوفي من الرعيل الأول من التابعين والسلف الصالح، حيث قال: “مما لا شك فيه أن القول الفصل في كل مشكلة من المشكلات إنما يُرجع فيه إلى الذين يمثلون الموضوع الذي تنتسب إليه المشكلة ،وإذا رجعنا إلى زعماء التصوف الذين لا يختلف على زعامتهم اثنان نجدهم –سواء في ذلك القدماء والمحدثون –  ينكرون فكرة التحلل من قيود الشريعة إنكارا تاما، ويرونها زيفا وضلالا وانسلاخا عن الدين بالكلية”.

وقد حاول عبدالحليم محمود تفنيد كثير من تلك الدعاوى والإنحرافات التي انتشرت على ألسنة  وممارسات المتصوفة المحدثين، من خلال استدعاء العديد من شخصيات ونصوص  التصوف الإسلامي، ففي كتابه (التصوف الإسلامي.. شخصيات ونصوص ) حاول الشيخ عبدالحليم محمود الرد على كثير من تلك الدعاوى والإدعاءات من خلال تحليله وشرحه لكتابات ثلاث شخصيات من مؤسسي الطريق الصوفي، هم: الحارث بن أسد المحاسبي، وأبو سعيد الخرّاز، وأبو حامد الغزالي، وهم يمثلون القرون الثاني والثالث والرابع الهجري على التوالي.

(الشيخ عبدالحليم محمود، والشيخ صالح الجعفري)

خلاصة القول إن كثيرا من البدع والخرافات لحقت بممارسات وطقوس الطرق الصوفية في مصر وغيرها من بلدان العالم العربي، لكن البدعة والمبالغة والادعاء، لم تكن من اختراع المتصوفة المعاصرين وحدهم، فقد ظلت تلك الممارسات الابتداعية تلاحق المنهج الصوفي على مدار قرون، نتيجة دخول من ليس أهلا لهذه الطريقة، كما لم يعدم هؤلاء من يوجه إليهم النقد، ويلاحق ممارساتهم بضوابط الشرع، واستحضار سير كبار المتصوفة ممن يرجع إليهم الفضل في تأسيس الطريق وتقعيد اّدابه وسلوكياته، ولم يكن الشيخ عبدالحليم محمود صاحب المحاولة الوحيدة في نقد سلوكيات المتصوفة، ومحاولة تصحيح مسارهم وإنما هناك العديد من المحاولات والتجارب المعاصرة، التي سنأتي على ذكر بعضها في مقال قادم.

 

بلال مؤمن

كاتب و محرر مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock