رؤى

كيف ألهمت كتابات اليمين الفرنسي سفاح نيوزيلندا؟

عندما اجتمع القوميون البيض في مدينة “شارلوتسفيل”، بولاية فيرجينيا الأمريكية، في أغسطس 2017، وأنشدوا “لن يحلوا محلنا”، و”لن يحل اليهود محلنا”، لم يكن كثير من المتطرفين المجتمعين يعرفون مصدر هذه الشعارات. على النقيض، كان “برينتون تارانت”، الذي قتل 49 مسلما كانوا يؤدون صلاة الجمعة، وجرح عشرات آخرين في مسجدين في مدينة كرايستشيرش في نيوزيلندا، يوم الجمعة الماضي، أكثر وضوحا فيما يتعلق بمشاربه الفكرية.

ففي بيانه الذي نشره قبيل إقدامه على هذا العمل الإرهابي (74 صفحة)، يمتدح تارانت، البالغ من العمر 28 عاما، السفاح النرويجي، “أندرس بهرنج بريفيك”، ويستلهم منه جريمته، كما يؤكد إعجابه بالزعيم الفاشيستي البريطاني في فترة ما بين الحربين، “أوزوالد موسلي”. رغم ذلك، تحتل الأفكار الفرنسية مكانة بارزة في ذهنية تارانت.

أندرس بهرنج بريفيك                                     أوزوالد موسلي

الاستبدال الكبير

ففي مقالة حملت عنوان The Inspiration for Terrorism in New Zealand Came from France (نيوزيلندا استلهمت إرهابها من فرنسا)، يروي الكاتبان ساشا بولاكو – سورانسكي، الباحث في التاريخ الحديث في جامعة أكسفورد، وسارة ويلدمان، المتخصصة في قضايا الهوية، كيف يتذكر “تارانت” لحظات مشاهدة “الغزاة” في مركز تسوق أثناء زيارته مدينة صغيرة في شرق فرنسا باعتبارها ’لحظة التجلي‘ التي أدرك فيها أنه سيلجأ إلى العنف. ويضيفان أنه – بحسب بيانه – يستلهم أعمال الكاتب الفرنسي المناهض للهجرة، “رونو كامو”، بما في ذلك انتحاله عنوان كتاب كامو Le Grand Replacement (الاستبدال الكبير)، وهي عبارة شاع استخدامها كثيرا في مناظرات الهجرة، كما أنها العبارة المفضلة لدى سياسيي اليمين المتطرف في جميع أنحاء القارة البيضاء، بمن فيهم المتطرف اليميني الهولندي “خٍيرت ويلدرز”، ومجموعة من الشباب الناشطين الذين يطلقون على أنفسهم تيار “الحركات القومية”.

رونو كامو وكتابه الاستبدال الكبير

ويسجل تارانت في بيانه أنه رفض في البداية سرديات غزو فرنسا من قبل غير البيض التي سمع عنها عندما كان لا يزال في بلده، لكن بمجرد ذهابه إلى  فرنسا “وجدت عواطفي تتأرجح بين الغضب الجامح  واليأس الخانق إزاء هذا الغزو للأراضي الفرنسية، وتشاؤم الشعب الفرنسي، وضياع الثقافة والهوية، ومهزلة الحلول السياسية المقترحة”.

ورغم أن تارانت بدا حريصا على أن ينسب الفضل في جريمته الإرهابية إلى “كامو”، إلا أن الأخير يدفع عن نفسه أن تكون أفكاره قد ألهمت هذه المذبحة. وردا على سيل الانتقادات التي طالته على “تويتر“، عبر كامو عن استنكاره لهذه المذبحة، مؤكدا “أراه عملا إجراميا وأحمق ومريعا”، بل واتهم مرتكبه بـ “الاستخدام المتعسف لعبارة ليست له، ولا يفهم معناها”.

رغم ذلك، فإن بيان تارانت يعكس كتابات كامو من وجوه كثيرة، أبرزها الخوف من ’الإزاحة الديموغرافية‘، التي يحل فيها شعب جديد محل شعب موجود فعليا، وهي عملية يصر كامو على أنها قرينة الاستعمار. ففي مقالة بعنوان Pegida, Mon Amour (بيغيدا، حبي)، يمتدح كامو حركة “بيغيدا” الألمانية المعادية للإسلام باعتبارها “أملا عظيما يشع نوره من الشرق”، ويصفها بأنها “جبهة تحرير” تقاتل في معركة “النضال ضد المستعمرين”. ويؤكد كامو أنه “ليس ثمة أمل في التعايش معا على أرض أوربا في الوقت الذي يواصل فيه الغزو الكولونيالي زحفه، ونقوم نحن بدور الشعوب الأصلية المحتلة”، حيث تستخدم “أسلحة الأرقام المجردة والاستبدال الديموغرافي لإخضاع السكان الأصليين”.

هذه الأفكار عكسها “تارانت  في بيانه على نحو مريع، حيث يقول: “ملايين البشر يتدفقون عبر حدودنا .. مدعوون من قبل الدولة والكيانات المؤسسية، ليحلوا محل السكان البيض الذين فشلوا في أن يتكاثروا ويقدموا العمالة الرخيصة، والمستهلكين الجدد، والقاعدة الضريبية التي تحتاج إليها الدول والشركات لتنتعش وتمضي قدما”.

رئيسة وزراء نيوزيلندا جاسيندا أرديرن

ويضيف: “تمثل أزمات الهجرة الجماعية ومعدلات الخصوبة المتدنية التي لا تكفي لتجديد السكان أدوات فتك بالشعب الأوربي، وما لم يتم التصدي لها فستسفر حتما في نهاية المطاف عن استبدال إثني وثقافي كامل لهذا الشعب”.

ويدعي “تارانت” أن هدفه كان أن يبين للغزاة أن “أرضنا لن تكون يوما وطنا لهم”. وقد اختار المسجد لأنه ينظر للمصلين باعتبارهم “مجموعة كبيرة من الغزاة، ينتمون إلى ثقافة تتمتع بمعدلات خصوبة مرتفعة، وثقة اجتماعية عليا، وتقاليد راسخة ومتجذرة، ويسعون إلى أن يحتلوا أرضنا، ويحلون إثنيا محل شعوبنا”.

عبارات كتبت على السلاح المستخدم في مجزرة نيوزيلندا

معسكر القديسين

يشكل القلق الديموغرافي من اندثار الشعوب البيضاء ،والزيادة المطردة في أعداد المهاجرين – خاصة المسلمين – بعدا مركزيا في برامج الأحزاب القومية في جميع أنحاء أوربا. ففي القرن العشرين، يمكن تتبع هذا الهاجس في الرؤى التنبؤية للسياسي والأديب الإنجليزي، “إينوك باول”، والكاتب الفرنسي جان راسبيل، اللذين اعتبرهما كامو “أنبياء” في كتابه “الاستبدال الكبير”.

ويرى الخبير السياسي المنتمي إلى تيار أقصى اليمين، جان إيف كامو، أن أفكار “تارانت” تضرب بجذورها في كتابات راسبيل أكثر من نظرية الاستبدال الكبير. ففي أحد رسائل البريد الإلكتروني التي تلقاها بولاكو – سورانسكي، أحد كاتبي المقال، من جان إيف كامو يوم الجمعة الماضي في أعقاب العمل الإرهابي، أكد الأخير أن “منفذ العملية أكثر تطرفا من رونو كامو”، وأضاف: “لقد صك كامو هذا المصطلح ’الاستبدال الكبير‘ ليبين إيمانه بأن الأوربيين البيض يتعرضون للإبادة من قبل المهاجرين غير القوقازيين، خاصة المسلمين. إن رونو كامو لم يتغاض عن العنف أبدا، ناهيك عن الإرهاب؛ أما راسبيل فشيء آخر”.

وقد أصبحت رواية راسبيل The Camp of the Saints (1973) (معسكر القديسين) التي تنتمي إلى أدب الديستوبيا (المدينة البائسة) أحد الأسفار المقدسة عند رموز اليمين المتطرف، بدءا من السياسية الفرنسية مارين لوبان، ووصولا إلى ستيف بانون، المستشار السابق للرئيس الأمريكي دونالد ترمب، والنائب العنصري الأبيض عن ولاية أيوا، ستيف كينج. ففي عام 2015، أثناء أزمة المهاجرين السوريين، حثت لوبان، التي عرفت راسبيل وتربت على كتاباته منذ نعومة أظفارها، الملايين من متابعيها على وسائل التواصل الاجتماعي على قراءة روايته “لإنقاذ فرنسا من الغرق”.

 Jean RASPAIL وروايته The Camp of the Saints

كان راسبيل قد تنبأ بأوربا ظلامية يفرغ فيها اللاجئون “جميع الأسّرة في مستشفياتنا ،حتى يتمكن التعساء الذين يعانون من الكوليرا والجذام من الاسترخاء والتمدد بين ملاءاتها البيضاء، ويملأ آخرون حضاناتنا المتلألئة المبتهجة بأطفال وحوش”. لكن أخوف ما كان يخافه راسبيل هو تمازج الأجناس: “وسيبشر آخرون بجنس مطلق لا محدود يحمل اسم جنس المستقبل الواحد الأوحد”.

في الوقت نفسه كان “راسبيل” يشيد بـ “الدول البيضاء في جنوب المحيط الهادئ (استراليا ونيوزيلندا) … أبطال العالم الغربي العالقة في المناطق النائية من قارة آسيا”، ويمجد سياسات الهجرة التي تنتهجها حكومات استراليا التي تتسم بالصرامة وتقوم على أسس أثنية. ففي أكتوبر 2015، ندد رئيس الوزراء الأسترالي الذي تم استبعاده مؤخرا، “توني أبوت”، بما أسماه “الإيثار المضلل” الذي تمارسه أوربا، وحذر من أن إنقاذ المهاجرين الذين تغرق بهم القوارب في عرض البحر كان “ميسرا  وليس رادعا” للهجرة الجماعية، وأن السياسات القاسية التي قد “تؤلم ضمائرنا هي الحل الوحيد لمنع الطوفان البشري  الذي يتدفق إلى جميع أنحاء أوربا، وربما يغيرها إلى الأبد”.

وبعد مرور خمسة عقود على كتابة روايته ظل “راسبيل” مؤمنا بأفكاره. ففي مقابلة أجراها معه بولاكو – سورانسكي في شقته في باريس في عام 2016، أخبر راسبيل كاتب المقال بأنه يرى الآن بعيني رأسه حركة جديدة تتشكل على الأرض، تشبه إلى حد كبير فرقة الأفراد قليلة العدد التي تصدت للمهاجرين في نهاية روايته، بعد أن احتمى أفرادها بمنزل قديم من الحجارة، وراحوا يطلقون النار على “الغزاة”.

ويضيف راسبيل  في هذه المقابلة: “لقد سئمنا.. ستتشكل حركة مقاومة حقيقية على الأرض، وقد بدأت بالفعل.. إذا آلت الأوضاع إلى كارثة، كما أتنبأ لها، فستكون بالتأكيد هناك مقاومة قاسية ومسلحة؛ فالناس يريدون أن يحرروا مدينتهم”.

ويخلص بولاكو – سوارنسكي إلى إن الحقيقة البسيطة التي يريد راسبيل أن يعبر عنها هي: “بدون استخدام القوة، لن نستطيع أن نوقف الغزو”.

 

الجذور البعيدة

وقد بلغ إيمان مرتكب مذبحة نيوزيلندا (تارانت) بهذه الرؤية التي يعبر عنها راسبيل، حد العقيدة في يوم الجمعة الماضي، فراح ينفس عن إرهابه، بحسب كاتبي المقال – من خلال الاعتماد على لغة التعددية الإثنية الأكثر قبولا، وهو تصور شائع الآن في الأوساط اليمينية المتطرفة كآلية لتفادي تهم العنصرية. “لم يكن هجوما على التعددية، وإنما كان باسم التعددية، لضمان أن تبقى الشعوب المتنوعة متنوعة ومتمايزة ومتفردة ومتمتعة بحقها الكامل في الحرية والاستقلالية الثقافية والإثنية “، كما كتب منفذ العملية في بيانه.

لكن كاتبي المقال يؤكدان أن فكرة ’الاستبدال الكبير‘ ليست تصورا جديدا، وإنما تضرب بجذورها في فرنسا منذ نهاية القرن التاسع عشر، عندما ندد المفكرون القوميون من أمثال “موريس باريس” بالرحالة غير الاصليين، واحتفوا بفرنسا ذات الجذور الغائرة في الهوية والسلالة. كان باريس صوتا رائدا بين رموز معاداة السامية أثناء قضية دريفوس، وحذر من مواطنين فرنسيين جدد يريدون أن يفرضوا نمط حياتهم على فرنسا. في هذا الوقت، كان “الغزاة” الذين يخشاهم باريس من اليهود، وليس المسلمين. “إنهم متناقضون مع حضارتنا”، كما كتب باريس عن المهاجرين الذين أصبحوا فرنسيين، “وانتصار رؤيتهم يعني انهيار بلادنا. ربما يظل اسم فرنسا باقيا، أما شخصيتها الأصيلة والمميزة  فستنهار تحت وقع أقدام الغزاة”.

Related image

الرجعي المحترم

وفي عشرينيات القرن الماضي، قدم رجل الأعمال، فرانسوا كوتي، الذي كان يمتلك صحيفة Le Figaro “لو فيغارو” اليمينية المتطرفة فكرة ’الاستبدال الكبير‘ بعبارات أكثر واقعية. كان مؤيدو سياسات التعاون الدولي قد قرروا “استبدال الجنس الفرنسي بجنس آخر”، كما كتب كوتي في صحيفته. ونظرا لأنهم قد أعدوا العدة لمحق وجه فرنسا الحقيقي واستيراد مواطنين جدد لا تربطهم بالجنسية الفرنسية سوى أوراق ثبوتية، فإن هؤلاء الوافدين الجدد – عند كوتي “أعداء مجنسون”.

وفي هذا السياق، أكد الصحافي الأمريكي توماس تشاترتون ويليامز في أعقاب أحداث شارلوتسفيل في عام 2017 أن كامو عادة ما يقوم بدور “الرجعي المحترم”، لأن معارضته للعولمة متعددة الثقافات عقلانية ومهذبة، بما يجعلها على طرفي نقيض من وحشية النازيين الجدد حليقي الرؤوس ،والقوميين البيض الموشومين الذين يطبقون عمليا الأفكار المرتبطة بظاهرة الخوف المرضي من الأجنبي ،التي عبر عنها كتاب “الاستبدال الكبير”.

أحداث شارلوتسفيل

يمكن مطالعة النص الأصلي للمقالة باللغة الإنجليزية من هنا:

أحمد بركات

باحث و مترجم مصرى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock