رؤى

هل يمتلك اليمين المتطرف في أوربا تنظيما سريا؟

على مدى العقود الثلاثة الماضية، اضطلع أفراد (أو من يطلق عليهم «الذئاب المنفردة»)،  أو خلايا صغيرة مستقلة بتنفيذ عمليات إرهابية مدفوعة بأفكار اليمين المتطرف. ويرجع السبب في ذلك إلى صعوبة تأسيس – فضلا عن عمل – كيانات يمينية متشددة ذات أهداف إرهابية معلنة في الديمقراطيات الغربية في ظل الرقابة الأمنية الصارمة التي تمارسها الدولة، والتي تحول دون توافر دعم خارجي أو ملاذات آمنة. فعلى سبيل المثال، أجهضت الأجهزة الأمنية في بريطانيا، في نهاية عام 2016، محاولات جماعة «العمل الوطني» اليمينية المتشددة للإعداد لهجوم إرهابي، ويقضي قادتها ونشطاؤها حاليا عقوبات بالسجن لفترات طويلة.

‘Only Bullets will Stop Us!’ – The Banning of National Action in Britain

تركت هذه الرقابة جماعات اليمين المتشدد في النصف الغربي من العالم أمام خيارين لا ثالث لهما، هما: إما العمل الاجتماعي والسياسي العلني مع الامتثال الكامل للقوانين المنظمة له، أو العمل السري تحت الأرض.

الشبكات السرية المتطرفة ومذبحة نيوزيلندا

وفي هذا السياق، يؤكد «جاكوب راندال» – زميل ما بعد الدكتوراه في مركز بحوث التطرف بجامعة أوسلو – أن فهم التهديدات الإرهابية اليمينة في أوربا يعتمد بالأساس على الإحاطة بشبكاتها السرية التي تعمل تحت الأرض، خاصة عبر الإنترنت. وفي مقالته التي حملت عنوان The Dark Web Enabled the Christchurch Killer (شبكة مجهولة مكنت قاتل كريستتشيرش) يطرح راندال سؤالا مهما حول ما إذا كانت هناك جماعات سرية دولية تضم عددا من النشطاء الذين يعملون معا عبر تطبيقات مشفرة للإعداد لعمليات إرهابية مستقبلية؟

Related image

 

و في معرض إجابته يؤكد راندال: «ربما لا يملك أحد جوابا قاطعا، لكن المتتبع للعمليات السابقة يستطيع أن يضع يده على آثار لهذه الشبكات الدولية داخل معسكر اليمين المتشدد». فعلى المستوى الوطني، يبدو أن العديد من البلدان تستضيف – دون أن تدري – شبكات سرية متطرفة تعمل من أجل تسهيل حملات إرهابية ضد أقليات، أو أعداء سياسيين، أو حتى حكومات. وتمتلك كثير من هذه الشبكات روابط واتصالات دولية.

ويسوق راندال على ذلك عددا من الأمثلة، أبرزها «الخلية القومية الاشتراكية السرية» (إن إس يو)  ) في ألمانيا، التي قتلت في الفترة بين عامي 2000 و2006 ، تسعة مهاجرين وشرطية، ونفذت – على أقل تقدير – ثلاث عمليات إرهابية منفصلة.

وقد كشفت التحقيقات عن تلقي هذه  الخلية المكونة من ثلاثة أفراد دعما ماليا وعملياتيا من شبكة سرية أوسع.

وبخلاف ألمانيا، تستضيف دول أخرى شبكات يمينية سرية متطرفة ذات أهداف إرهابية، مثل إيطاليا وفرنسا والولايات المتحدة وروسيا. وقد تضاعفت أعداد العمليات الإرهابية التي نفذها معسكر اليمين المتشدد داخل روسيا في أعقاب سقوط الاتحاد السوفيتي في بداية العقد الأخير من القرن الماضي. وفي الغرب، تأتي السويد وألمانيا على رأس قائمة الدول ذات المعدلات الأعلى من حيث استقبال أراضيها لعمليات إرهابية، وتليهما الولايات المتحدة   وبريطانيا وإسبانيا واليونان.

لكن اللافت- بحسب راندال – هو أن أغلب هذه العمليات لم تنفذ من قبل جماعات منظمة، أو حتى خلايا مستقلة، وإنما اضطلعت بها عصابات أو جماعات غير منظمة، أو أفراد، مثل هجوم كنيس بيتسبرغ في أكتوبر الماضي ،وهجوم كريستشيرش الإرهابي الذي وقع يوم الجمعة الماضي ضد مسجدين في نيوزيلندا.

نوعان من العنف المتطرف  

وتواجه الديمقراطيات الغربية في الوقت الراهن نوعين من العنف الذي يمارسه اليمين المتطرف.. الأول العمليات العفوية التي ينفذها وكلاء غير منظمين مسكونين بأفكار اليمين المتطرف، غالبا تحت تأثير الكحول أو المخدرات، وتستخدم فيها الأسلحة البيضاء والعصي والقضبان الحديدية. أما النوع الثاني فيتمثل في العمليات واسعة النطاق التي يرتكبها أفراد «ذئاب منفردة» أو خلايا مستقلة. وتتسم هذه العمليات بالندرة والتخطيط المسبق والاعتماد على الأسلحة النارية والمتفجرات، وتستهدف – خاصة في الفترة الأخيرة – المسلمين (عملية كريسشيرش في نيوزيلندا نموذجا). ورغم  أن هذه العمليات  تتم ضد أهداف متشابهة،  إلا أنها تفتقد إلى التواصل المباشر أو التعاون الرسمي بين منفذيها، لكنهم يلهمون بعضهم بعضا.

القاتل النرويجي

يرجع راندال في رصده لهذا النوع من العمليات إلى عملية القتل الجماعي التي نفذها أندرس بهرنغ بريفيك في 22 يوليو 2011، واستهدفت نوابا حكوميين وأعضاء من جناح الشباب في حزب العمال الحاكم في النرويج لتسهيلهم ما اعتبره «غزو المسلمين» للنرويج، وأسفرت هذه  العملية عن مقتل 8 أفراد في أوسلو و69 آخرين في أوتويا، وجرح 158، وضمت قائمة الضحايا عددا من الأطفال البيض. ويؤكد راندال أن هذه العملية كانت فريدة من نوعها من وجوه عدة. فبالإضافة إلى حصيلة القتلى المرتفعة، تعد هذه العملية من العمليات القلائل التي اعتنق مرتكبها الفكر الراديكالي «بطريقة التعلم الذاتي عبر الإنترنت» دون أي اتصال بجماعات اليمين المتطرف المنظمة. كما أنها تمثل العملية اليمينية الإرهابية الوحيدة المعقدة التي وقعت في غضون العقود الثلاثة الماضية، حيث جمعت بين استخدام السلاح الناري والمتفجرات؛ (بحسب راندال، تتشارك عملية بريفيك في النرويج هاتين السمتين تماما مع عملية برينتون تارانت في نيوزيلندا). إضافة إلى ذلك، كان بريفيك أول شخص ينتج القنابل عن طريق تخفيف تركيز نيترات الأمونيوم الموجودة في الأسمدة الطبيعية والكيميائية، وهي الطريقة التي تعلمها عن طريق الإنترنت. وهكذا، فإنه من منظور عملياتي يمكن أن يتحول ’إنجاز‘ بريفيك إلى مصدر إلهام لعمليات إرهابية مستقبلية.

القاتل النرويجي «بريفيك»

وفي أعقاب العملية، تأسست شبكة دعم عبر الإنترنت لدعم بريفيك أدارها شخص مجهول انتحل لنفسه اسم Angus «أنجوس»، الذي تحول لاحقا إلى متحدث رسمي باسم بريفيك. ويلفت راندال إلى أن «أنجوس» كان يتمتع بقدرات فائقة فيما يتعلق بالأمن العملياتي السيبراني، ولم تفلح محاولات العديد من الأجهزة الاستخباراتية في التوصل إلى أثر له يمَكنها من تتبعه، لولا أن قامت إحدى صديقاته بالكشف عن اسمه لصحافي نرويجي ليتضح في النهاية أنه رجل هولندي يعيش في الولايات المتحدة ، وعلى إثر مواجهته بالصحافي توقف نشاطه الدعمي عبر الإنترنت، وتفككت الشبكة برمتها.

وعلى مدى هذه الفترة لم يظهر تقريبا أي ’خليفة‘ للقاتل الجماعي النرويجي ربما سوى ضابط السواحل الأمريكي الذي القي القبض عليه مؤخرا قبل أن ينفذ مخططه ضد سياسيين وصحافيين في الولايات المتحدة، ولم تكشف الأجهزة الأمنية الأمريكية الكثير من المعلومات عن هذه القضية.

لذا يَعتبر راندال أن تارانت – ’بطل مذبحة نيوزيلندا – هو أول ’ملهَم‘ يقتفي خطا بريفيك، وهو ما أكده تارانت في بيانه: “برغم أنني قرأت أعمال كثيرين، لكنني لم استلهم سوى عمل الفارس العادل، بريفيك”.

فرسان الهيكل

ويزعم تارانت في بيانه أيضا أنه تواصل مع «فرسان الهيكل» Knights Templar المولودين من جديد لمنحه بركة دعمهم لعمليته («فرسان الهيكل» هي منظمة إرهابية خيالية اخترعها بريفيك ليلهم من خلالها عمليات مستقبلية). لكن الوقت  لايزال مبكرا – بحسب راندال – لمعرفة ما إذا كان «فرسان الهيكل» قد ولدوا من جديد بالفعل، أو ما إذا كان هناك أعضاء آخرون أو خلايا أخرى، كما يزعم تارانت. ولو صح هذا الزعم «فإننا بصدد تطور غير مسبوق في التاريخ الحديث لإرهاب اليمين المتطرف»؛ إذ يعنى هذا فيما يعني أن هذه الشبكات الإرهابية الدولية لم تكن موجودة منذ سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، ممثلة في «شبكة الأوركسترا السوداء»، التي اتخذت من إيطاليا مقرا لها – ولكنها كانت تتلقى دعما وتدريبات في البرتغال.

Image result for ‫إرهابي نيوزيلندا‬‎

راندال أن تارانت

يبدو أيضا أن تارانت – على عكس ’ملهمه‘ كتب بيانه – أو على الأقل أغلب أجزائه – بنفسه، ووجهه إلى جماعة سرية عبر الإنترنت باستخدام لغة مشفرة، ونبرة تهكمية، وعمد إلى توريط بعض الشخصيات المثيرة للجدل لإثارة نوع من البلبلة والاستقطاب. كما أن استهداف هجوم كريستشيرش للمساجد والمسلمين (وليس البيض، كما فعل هجوم بريفيك) قد منح صاحبه مكانة أفضل داخل دوائر الحركة السرية من تلك التي حظي بها القاتل النرويجي. وتوجد دلالات مهمة على منصات يمينية متنوعة تؤكد اتساع قاعدة تأييد هجوم كريستشيرش الإرهابي (على عكس عملية بريفيك التي لم تحظ بتأييد موسع على المنصات اليمينية ربما – بحسب راندال – لأن ضحاياها كانوا من البيض الماركسيين، ولسقوط عدد غير قليل من الأطفال في هذه العملية).

ويلفت راندال إلى أن هجوم  نيوزيلندا «يجب أن يذكرنا أيضا بأن عدد العمليات الإرهابية المدفوعة بمعتقدات اليمين المتطرف في الديمقراطيات الغربية يفوق بكثير عدد تلك العمليات المدفوعة بمعتقدات المتطرفين الإسلاميين». برغم ذلك، فإن هذا النوع من التهديدات يبقى بالأساس تهديدا سريا غير منظم، ويجب على من يشكلون الرأي العام أن يكونوا أكثر حرصا عند توجيه اللوم والاتهامات إلى أولئك الذين يعملون في المجال العام ويلتزمون بالأطر القانونية، مثل الأحزاب اليمينية الراديكالية أو حركات الاحتجاج المناهضة للمهاجرين.

وعلى عكس ما يعتقد الكثيرون يشير «راندال» إلى أن هناك علاقة عكسية بين الدعم الانتخابي لأحزاب اليمين المتطرف  في الديمقراطيات الغربية ومعدلات العمليات الإرهابية التي تقوم بها الحركات اليمينية المتطرفة. ويخلص راندال إلى أنه «في الوقت الذي تشكل فيه الأحزاب والحركات اليمينية في بعض الحالات تهديدا لقيم الديمقراطية وحقوق الأقليات، إلا أن تهديد العنف واسع النطاق يأتي بالأساس من العمل السري عبر الإنترنت، ومن ثم يحتاج صناع السياسات إلى معرفة المزيد عن أسباب انجذاب البعض إلى هذا العالم الظلامي الغامض».

*يمكن مطالعة النص الأصلي  للمقال باللغة الإنجليزية من هنا ?

 

أحمد بركات

باحث و مترجم مصرى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock