رؤى

الحرب على الديمقراطية الليبرالية (2– 3): التاريخ المروع للكنيسة الأوربية في العصور الوسطى

جوزيف لوكونتي- أستاذ التاريخ في كلية كينجز كوليدج- نيويورك

ترجمة وعرض :أحمد بركات

 في الجزء الثاني من مقالته التي حملت عنوان The War Over Liberal Democracy (الحرب على الديمقراطية الليبرالية)، يشير البروفيسور جوزيف لوكونتي، أستاذ التاريخ في كلية كينجز كوليدج، في نيويورك، إلى أن ’عقيدة القهر‘ ظلت تسيطر على المجتمع الأوربي لأكثر من ألف سنة، وساعدت في إنشاء محاكم التفتيش بحجة اجتثاث جذور الهرطقة وإعادة المنحرفين إلى الكنيسة. فبعد حصولهم على تفويض في المرة الأولى من مجلس الكنائس في فرنسا في عام 1229، تعهد القادة الإكليريكيون بتعقب الهراطقة «بجد وإخلاص في إبراشياتهم». وفي الحال تم إنشاء محاكم كنسية لمحاكمة المتهمين في جميع أنحاء أوربا.

الدفاع عن العصور الوسطى

يبدأ لو كونتي هذا الجزء من مقالته بتأكيد أنه ليس هناك حاجة إلى التهويل من الأعمال الوحشية التي ارتكبتها محاكم التفتيش، بحجة أن الذين حُكم عليهم بالإدانة بالهرطقة وتراجعوا عن أفكارهم كانوا يعاملون بالرأفة في بعض الأحيان، وأن حالات الإعدام العامة الموسعة، كتلك التي تمت بحق 200 من أعضاء «حركة الكاثار» الذين حرقوا على أعواد الصلبان في مدينة فيرونا الإيطالية في عام 1278، كانت قليلة، فضلا عن أن آلية محاكم التفتيش لم تكن فعالة كما زعم مؤيدوها. إلا أن لوكونتي سرعان ما يشير إلى أنه وعلى مدى ستة قرون واجه عشرات الآلاف من المنشقين عمليات قتل عنيفة، وتم اغتصاب ثرواتهم، وتركت عائلاتهم ترزح تحت الفقر، بسبب أنهم تجرأوا على التفكير خارج الصندوق الكنسي.

وفي كتابه «لماذا فشلت اللييبرالية» Why liberalism Failed الذي أثار نقاشات موسعة، يغفل «باتريك دينين»، أستاذ العلوم السياسية والدراسات الدستورية في جامعة نوتردام، عن ذكر هذا الملمح من المسيحية. وبدلا من ذلك، يؤكد أن «الجهود التي بُذلت في العصور الوسطى من أجل غرس الفضيلة كانت دفاعا مركزيا ضد الاستبداد»، وإحدى العلامات البارزة في المسيحية الأوربية. ويضيف أن «حماية حقوق الأفراد والاعتقاد الراسخ في الكرامة الإنسانية، حتى لو لم يكونا دائما محل اعتراف ومنهج ممارسة، إلا أنهما كانا إنجازات فلسفية لأوربا ما قبل الحداثة».

ويتجاهل رود دريهر، المحرر في مجلة The American Conservative إنتهاكات الكنيسة عن طريق تمجيد «العالم السحري» في أوربا العصور الوسطى بما ينطوي عليه من وعي بالحقائق الروحانية. وفي كتابه The Benedict Option، يؤكد دريهر أن رجال ونساء العصور الوسطى «حملوا في مخيلاتهم رؤية عميقة للاندماج». ويضيف: «في العقل الجمعي الأوربي في العصور الوسطى، فسر الناس الحقيقة بطريقة مكنتهم من تحقيق التناغم بين كل شيء على مستوى التصور والمفاهيم، وهو ما جعلهم يجدون المعنى وسط الفوضى».

لكن هذا الامر ،في رأي لو كونتي «ليس هذا سوى محض خيال»، فقد «كانت مأساة العالم المسيحي تكمن دائما في إقامة ذلك الرابط الأخلاقي / اللاأخلاقي بين المسيحية وثقافة القهر.. فتحولت كنيسة الشهداء إلى كنيسة محققي محاكم التفتيش، وصار استخدام التعذيب – الذي كان قاصرا في الماضي على الجرائم التي كانت ترتكب ضد الدولة – جزءا لا يتجزأ من نظام الكنيسة، ليس فقط لانتزاع اعترافات بالهرطقة، ولكن أيضا لانتزاع اعترافات ترشد عن أفراد من أسر المتهمين أو جيرانهم. .وقد عبر جيان بيترو كارافا، الذي تم تعيينه على رأس الكنيسة في عام 1555 عن توجه عقلي أقرب إلى عميل في جهاز الاستخبارات السوفيتية KGB منه إلى أحد أتباع المسيح، حيث أكد أنه كان سيجمع الحطب لحرق أبيه لو علم أنه من الهراطقة. “لقد  تكلف التوحد الروحاني للعالم المسيحي ثمنا إنسانيا باهظا»، كما يخلص لوكونتي.

جيان بيترو كارافا

معاداة السامية ورفض الآخر

هذا الموقف العدواني والعنف المفرط  قبل الكنيسة تجاه من اعتبرتهم من الهراطقة، كان يتغذى، كما يقول لوكونتي، على القلق.. ذلك الشعور العميق بعدم الأمان حيال صلاحية مشروع العصور الوسطى برمته.. وقد كان الدافع لفرض الرقابة على العقل، وخلق قائمة من الكتب المحرمة، هو أحد تجليات هذا الشعور، كما كان إضفاء الصبغة اللاهوتية على كل شيء من خلال وضع حدود صارمة للعقيدة المقبولة، تجليا آخر لهذا الشعور، فيما كان إقصاء الآخر الأيديولوجي من خلال تهميش المنشقين وطردهم من الحياة السياسية والاجتماعية تجليا ثالثا لذلك..ولعل الدافع الأخير يساعد في تفسير معاداة السامية في أوربا، أو ما أسماه المؤرخ بول جونسون «مرض العقل».

بول جونسون

تفشى هذا المرض كالطاعون في الجزء الأخير من العصور الوسطى، عندما اتحد الصراع على السلطة ضد الدولة والحرب ضد الإسلام وانتشار البدع الجديدة معا، لوضع الكنيسة في موقف دفاعي. فعلى غرار المسلمين، تم قبول اليهود أملا في ضمهم إلى المسيحية، وعلى مدى العصور الوسطى، عارضت البابوية إجبارهم على التحول الديني، وتمتع اليهود باستقلال كامل لممارسة شعائرهم الدينية. لكن، مع بداية القرن الثالث عشر، حسبما كتب المؤرخ مارك كوهين، استُبدلت الحماية البابوية لليهود بـ «عدائية ورغبة قوية في إقصاء اليهود الكفار من المجتمع المسيحي». وظهرت في المشهد الأوربي نصوص أخرى تعود إلى العصور الوسطى تبرر استخدام القوة ضد اليهود «المتهمين بممارسة طقوس قتل ضد الأطفال المسيحيين».

على سبيل المثال، في أثناء كارثة «الموت الأسود» التي وقعت في أربعينيات القرن الرابع عشر، تعرض اليهود لمذابح مروعة في جميع أنحاء ألمانيا وفلاندر وغيرهما، كما تم حرق نسخ من التلمود، وأجبر يهوديون كثيرون على اعتناق المسيحية. وتعمقت سياسات الإقصاء حتى وصلت إلى الطرد والنفي، بدءا من إنجلترا في عام 1290، ثم فرنسا في عام 1306، والبرتغال في عام 1496، وفي عام 1492، تحت مقصلة محاكم التفتيش الإسبانية، أمرت أسبانيا بطرد جميع سكانها من اليهود (حوالي 200000نسمة)، حيث لقي عشرات الآلاف من اللاجئين حتفهم أثناء محاولاتهم العثور على ملاذات آمنة.

Image result for ‫كارثة الموت الأسود‬‎

ويعمد المبررون للمسيحية إما إلى تجاهل هذه الفظائع، أو إلى التهوين من شأنها مقارنة بالمذابح التي وقعت في القرن العشرين. إلا أن كل هذه المبررات لا تتقاطع مع الجوهر الحقيقي للأزمة الذي يتمثل في تحويل رسالة الإنجيل من حب إلهي وحرية روحية إلى أيديولوجيا تقوم على الإقصاء والقهر.

*يمكن قراءة النص الأصلي باللغة الإنجليزية من هنا ?

 

أحمد بركات

باحث و مترجم مصرى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock