رؤى

صاحب «حي بن يقظان» وصديق ابن رشد: ثنائية العزلة والاندماج في فلسفة ابن طفيل

«أبو بكر بن طفيل» هو فيلسوف ومفكر وطبيب وشاعر عربي، ولد بمنطقة وادى آش القريبة من غرناطة بالأندلس (أسبانيا الحالية)، وهو صاحب رواية «حي بن يقظان» أول رواية عربية فلسفية، وقد سبق بها رواية «روبنسون كروز» لدانيال فو، وابن طفيل هو أيضا أحد وزراء الدولة فى عهد أبى يعقوب يوسف بن عبد المؤمن، وكان قريبا منه كما أنه كان من معاصري أبن رشد وأحد أصدقائه.

قدم الفيلسوف والعالم الأندلسي الفذ، أبو بكر بن طفيل (1105 – 1185) شخصية «الطفل البربري» في الفلسفة، حيث سرد عبر روايته الشهيرة «حي بن يقظان» قصة طفل سمّاه (حي) ربته ظبية في جزيرة منعزلة في المحيط الهندي. وفي ظل هذه العزلة يبلغ حي حالة مثالية في فهم العالم، ويهتدي – بعد تأمل عميق – إلى نوعين من اليوتوبيا (المدينة الفاضلة)، هما يوتوبيا العقل (الروح) التي تكمن في العزلة التامة، ويوتوبيا المجتمع الأخلاقي الذي يتمسك بالتقاليد والأعراف، ويخضع لحكم القانون. وتنطوي كل يوتوبيا على نموذج مختلف من السعادة البشرية، لكن كليهما غير موجود على الإطلاق في أي مكان في العالم.

حياة العزلة

في الجزء الأول من روايته يقدم  ابن طفيل رؤية لحالة إنسانية منعزلة تماما عن المجتمع والسياسة، وهو ما أطلق عليه منظرو السياسة الأوربية في العصر الحديث «حالة الطبيعة» (ٍState of Nature). ففي البداية يحاول الفيلسوف الأندلسي تقديم حي من خلال التكهن بأصله، لكنه يخلص إلى نتيجة مفادها أنه سواء كانت أم هذا الغلام قد قذفت به في التابوت وتقاذفته أمواج الحياة إلى ساحل الجزيرة، أو ولد لأناس بدائيين يعيشون عليها، فإن «مقامه» يظل على حاله، على نحو ما حدث له معظم فترات حياته التي قضاها برفقة حيوانات. فالكمال عند ابن طفيل لا يتحقق إلا في حياة العزلة، عبر الارتقاء بالروح؛ وهو ما يناقض ما أكدته الفلسفة في وقت لاحق من أن المجتمع يرفع الإنسان من حالته الحيوانية الطبيعية إلى حالة متحضرة متقدمة.

وعلى النقيض أيضا من «الإنسان الذئب» في فكر توماس هوبز، فإن جزيرة حي لا تسكنها الذئاب، بل إن حي كان يذب عن نفسه المخلوقات الأخرى بمجرد التلويح بعصا، أو ارتداء ملابس من الجلود والريش. وإذا كان الخوف من الموت العنيف هو أصل العقد الاجتماعي وتمجيد الدولة عند هوبز، فإن مشاعر الخوف من الموت لم تتولد داخل حي إلا عند موت أمه الظبية. وبعد أن تملكه اليأس من عودتها إلى الحياة، قام حي بشرخ صدر أمه، واستخراج قلبها، ليجد إحدى غرفه خالية. من هنا يخلص ابن طفيل- الطبيب الشرعي الذي تحول إلى عالم في الدين – إلى أن ما كان يحبه حي في أمه لم يعد يسكن جسدها. فالموت إذا هو أول دروس الميتافيزيقا، وليس السياسة.

Related image

توماس هوبز

اليوتوبيا الأولى

يبدأ حي بعد ذلك  في ملاحظة النباتات والحيوانات على سطح الجزيرة، لكنه يستلهم فكرته عن الروح الأولى التي ينبعث منها سر الحياة من النار. كما يهديه تأمله في تعدد شكل المادة وخصائصها ووظائفها إلى أحادية مصدرها وعدم ماديته (العلة الأولى). ويتأمل الحركة المتكاملة للأجرام السماوية، فيبدأ سلسلة من التدريبات على الزهد والتقشف، (مثل الدوران حول نفسه حتى يصيبه الدوار) لمحاكاة هذا النظام الكوني الخفي. حتى إذا بلغ الخمسين من عمره، انعزل عن العالم، وآوى إلى كهفه متأملا، ليبلغ في النهاية حالة الاستنارة التي تورثه النشوة. ومن هنا ، فإن العقل عند ابن طفيل ليس دليلا مطلقا على الحقيقة.

يكمن الفارق الجوهري بين المراحل العقلية المتتابعة التي مر بها حي في رحلته للبحث عن النشوة والسعادة الروحية، والفكر الفلسفي العقلاني الذي ظهر لاحقا في دور العقل. رغم ذلك، تخطئ الكتابات والترجمات الأوربية الحديثة التي تناولت هذه الرواية في التأطير لهذه القصة الرمزية باعتبارها تشير إلى العقلنة والمنطق، ففي عام 1671، عنون إدوارد بوكوك ترجمته اللاتينية باسم The Self-Taught Philosopher: In Which It Is Demonstrated How Human Reason Can Ascend from Contemplation of the Inferior to Knowledge of the Superior (الفيلسوف المتعلم ذاتيا: القصة التي تعرض كيف يمكن أن يرتقي العقل البشري من تأمل الأدنى إلى معرفة الأعلى). وفي عام 1708، حملت ترجمة سيمون أوكلي إلى الإنجليزية عنوان The Improvement of Human Reason (الارتقاء بالعقل البشري وأكدت ترجمة أوكلى  ما أكدته ترجمة بوكوك من  قدرة العقل على الوصول إلى ’معرفة الله‘، في حين أن معرفة الله والكون عند ابن طفيل، أو ما يطلق عليه يوتوبيا العقل (الروح)‘ لا يمكن أن تتأتى إلا عن طريق الحدس التأملي السوي، وليس التفكير العقلاني المطلق.

تتمثل اليوتوبيا الأولى عند ابن طفيل – إذن – في جزيرة غير مأهولة حيث يأوي ’فيلسوف بربري‘ إلى كهف منعزل ،بحثا عن السعادة من خلال التأمل بعيدا عن العالم المادي، وهو ما يتأثر به فردريك نيتشه، عندما يعلن على لسان زرادشت: «اهرب يا صديقي إلى عزلتك».

تناقضات صارخة

ويدور الجزء الثاني من هذه القصة الرمزية (حي بن يقظان) حول إشكالية الحياة المجتمعية، أو «اليوتوبيا الثانية». فبعد أن يبلغ حي الحالة الإنسانية الكاملة، تتحطم جدران خلوته وتهتك أستار عزلته عندما يصل إلى الجزيرة كائن آخر يشبهه تماما. وبدافع الفضول يقيم حي علاقة صداقة مع هذا الهائم «أبسال»، الذي يعلمه اللغة ويشرح له القوانين التي تحكم سكان جزيرته، بينما يعلمه حي «الحقيقة» التي اكتشفها وغلفها في رموز وحكايات أخلاقية. ويقرر الرجلان أن «حقيقة» حي تفوق وتسمو على دين سكان جزيرة أبسال، ثم يقرران الارتحال إلى موطن الأخير.

تتحول المعايشة إلى كارثة، حيث يجد سكان جزيرة «أبسال» أنفسهم مضطرين – بحكم أعرافهم، وصداقتهم لأبسال، ونزوعهم إلى العيش في مجتمع – إلى الترحيب بحي. لكن مواعظ حي المستمرة سرعان ما تثير حنقهم؛ فيدرك أنهم غير قادرين على استيعابها لأنهم مدفوعون بإشباع أجسادهم وليس عقولهم (أرواحهم)، وأنه لا سبيل لتحقيق المجتمع الفاضل لأن بعض أفراد المجتمع لا يستطيعون تحقيق حالة الكمال الروحي. ويخلص إلى أن وعظ الناس لإقناعهم بتجاوز حالتهم الطبيعية (natural state) لن يزيدهم إلا جموحا وفسادا. فالقوانين التي يُجلها الناس، سواء كانت عن طريق الوحي أو العقل، تمثل فرصتهم الوحيدة لتحقيق حياة طيبة.

في النهاية، يعود حي إلى جزيرته برفقة أبسال، حيث يخلدان إلى حياة التأمل الذي يصل بهما إلى النشوة، ويهجران البحث عن مجتمع مثالي تحكمه القوانين. فاليوتوبيا الخاصة بهما تكمن في البحث عن العقل (الروح) القابع خلف قصور اللغة والقانون والأخلاق، وربما قصور الحياة ذاتها.

*هذه المادة مترجمة 

 

 

أحمد بركات

باحث و مترجم مصرى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock