رؤى

عن تلك القلة المهيمنة على مقدرات العالم

 روبرت بيروز

ترجمة وعرض أحمد بركات

هل تخضع المنظمات الدولية العالمية مثل الأمم المتحدة والهيئات الكثيرة التابعة لها، وكذلك هل تخضع الحكومات المحلية فى العالم، لهيمنة وسيطرة نخبة خفية، تدير الأمور، وتتحكم فى الاتجاهات والمسارات –وكذلك الصراعات- أينما وجدت؟

الإجابة الواضحة الجلية التي لا تقبل النقاش في رأى الكاتب «روبرت بيروز» هي «نعم» بلا جدال. وفي مقال له بعنوان Why activists Fail: The Importance of Telling the Truth (لماذا يفشل النشطاء: أهمية كشف الحقيقة) يطرح بيروز سؤالا مهما حول الطريقة التي تكونت بها هذه النخبة التي تحكم العالم عبر التاريخ، والمراحل التي قطعتها حتى وصلت إلى مرحلة السيطرة والهيمنة والتحكم فى كل الأمور، وكيف يمكن للنشطاء فى مختلف المجالات أن يتحركوا لمواجهة هذه السيطرة المطلقة من قِبل تلك  النخبة؟

التاريخ المختصر

 يعود بيروز في رصده التاريخي إلى ثورة العصر الحجري الحديث قبل 12000 عام من الزمان، عندما استبدل الإنسان الاقتصاد القائم على الصيد وحياة الترحال بالاقتصاد القائم على الزراعة واستنبات الأرض، بما حقق له الاستقرار، وكان إيذانا بميلاد الحضارات البشرية. وبينما كانت ثورة العصر الحجري الحديث تجتاح مناطق عدة من العالم بصورة عفوية، لجأت بعض المجتمعات التي ظهرت في آسيا وأوربا وأمريكا الوسطى والجنوبية إلى درجات متزايدة من الهيمنة الاجتماعية لتحقق نتائج اجتماعية واقتصادية متنوعة، بما في ذلك معدلات كفاءة أعلى في إنتاج الغذاء.

ومع ظهور الحضارات، وما صاحبها من اتساع رقعة العمران والتوسع في بناء المدن الكبيرة والبلدات الصغيرة، تعمقت الهيمنة الاجتماعية، وسمح ارتفاع معدلات إنتاج الغذاء لبعض الأقليات في المجتمع بالانصراف إلى المشاركة في نشاطات أكثر تخصصية، وتشكيل بيروقراطيات أكثر مركزية، وممارسة مهارات الحرب وفنون القتال A Critique Of Human Society Since The Neolithic Revolution. وظهرت بصورة متزايدة نخب ذات طابع محلي مثل (الفراعنة في مصر)، وأخرى ذات طابع سياسي مثل (الأباطرة الرومان)، وثالثة ذات طابع ديني مثل (الباباوات في الفاتيكان)، ورابعة ذات طابع اقتصادي مثل (مؤسسة مدينة لندن) ونخب خامسة ذات طابع وطني مثل (ممالك أوربا).

وفي أعقاب صلح «وستفاليا» عام 1648، الذي أسس لظهور الدولة القومية في أوربا، أحكمت النخب الوطنية، خاصة ذات الطابع الاقتصادي، قبضتها على المجتمعات الوطنية، مستعينة على ذلك بتسارع وتيرة الرأسمالية واتسارع رقعتها. ومع انتشار هذه النخب في جميع أنحاء العالم في القرون التالية (أو ما يطلق عليه بيروز «تدويل النخب»)، بحلول النصف الثاني من القرن العشرين، أحكمت نخبة عالمية هيمنتها على العالم.

نخبة القوى العالمية

شغلت قضية النخب اهتمام الكتاب والمفكرين منذ وقت طويل. على سبيل المثال، قال آدم سميث في كتابه (ثروة الأمم) «يبدو أن عبارةكل شيء من أجلنا، ولا شيء من أجل الآخرين‘ كانت في جميع العصور الشعار الذي رفعه سادة الجنس البشري».  

ويعتبر كتاب The Power Elite (نخبة القوة)، لعالم الاجتماع الأمريكي رايت ميلز، نواة الجهد البحثي المعاصر في توثيق طبيعة هذه النخبة، وكيفية عملها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وأسباب نجاحها في الهيمنة على المجتمع الأمريكي. وبرغم توالي الدراسات من هذا النوع، لا يزال معظم الناس يصدقون ذلك الوهم الذي تروج له النخبة، وهو أن المنظمات الدولية، مثل الأمم المتحدة، والحكومات الوطنية تمتلك أي قرار في تسيير الشأن العالمي. بينما يعد كتاب البروفيسور بيتر فيليبس Giants: The Global Power Elite (العمالقة: نخبة القوى العالمية) من أهم الكتب التي نشرت مؤخرا في تناول هذه القضية. ففي هذا الكتاب يحدد فيليبس أكبر 17 شركة في العالم في إدارة الأصول، مثل «بلاك روك» و«جي. بي. مورجان تشيس» اللتين تديران معا أكثر من 41.1 تريليون دولار أمريكي في شبكة استثمار ذاتي من رؤوس أموال متشابكة تمتد في جميع أنحاء العالم. وتعمل هذه الشركات العملاقة في جميع دول العالم تقريبا، وتمثل «المؤسسات المركزية لرأس المال»، التي تدير النظام الاقتصادي العالمي. وتستثمر هذه الشركات في جميع المجالات التي يمكن أن تجلب أرباحا، بدءا من الأراضي الزراعية التي تقوم فيها باستبدال الفلاحين من السكان الأصليين بمستثمري نخبة السلطة إلى الأصول العامة (مثل الطاقة ومرافق المياه)، ووصولا إلى الوقود الأحفوري والطاقة النووية والحروب.

وبدقة أكثر، يحدد فيليبس مديري هذه الشركات، البالغ عددهم 199 مديرا، وأهمية هذه المؤسسات العابرة للحدود، بما في ذلك البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، ومجموعة العشرين، ومجموعة السبعة، ومنظمة التجارة العالمية، والمنتدى الاقتصادي العالمي، واللجنة الثلاثية، ومجموعة بيلدربيرج، وبنك التسويات الدولية، ومجلس العلاقات الخارجية، وبشكل خاص منظمتين عالميتين لتخطيط السياسات، وهما مجموعة الثلاثين (تضم 32 عضوا)، واللجنة التنفيذية الموسعة للجنة الثلاثية (تضم 55 عضوا).

الدور الاقتصادي للآلة العسكرية

ويفصل فيليبس في كتابه كيف تدافع النخبة العالمية عن سلطاتها وأرباحها وامتيازاتها ضد ثورة «الجماهير المستغًلة – بفتح الغين-الغاضبة»، حيث «توظف نخبة القوى العالمية حلف شمال الأطلسي (الناتو) والإمبراطورية العسكرية الأمريكية لتحقيق أمنها العالمي. ويمثل هذا جزءا من استراتيجية موسعة للهيمنة العسكرية الأمريكية في جميع أنحاء العالم، حيث تعمل الإمبراطورية العسكرية التابعة للولايات المتحدة الأمريكية وحلف الناتو، بناء على نصائح من مجلس الأطلسي التابع لنخبة القوى، في خدمة فئة الشركات عبر الوطنية لحماية رأس المال العالمي في كل مكان في العالم».

ويضيف فيليبس: «تستند الإمبراطورية العسكرية الأمريكية إلى مئات السنين من الاستغلال الكولونيالي، وتواصل دعم الحكومات القمعية التي تتعاون مع الأجندة الإمبريالية لرؤوس الأموال الخارجية، حيث تصبح الاستفادة قاصرة على شريحة صغيرة من النخبة المحلية». ويؤدي احتكار رأس المال الخارجي للاستثمارات الداخلية، أو هيمنته عليها – على أقل تقدير- إلى نضوب الموارد وزيادة معدلات الفقر. وتظل هذه الدائرة في التمدد، بما يحقق مزيدا من الأرباح للنخبة ومزيدا من عدم المساواة والفقر للشعوب.

ويؤكد  فيليبس أيضا أن: “فهم حالة الحرب التي لا تنقطع كصمام للتنفيس الاقتصادي لفائض رأس المال يمثل بعدا مركزيا لفهم طريقة عمل الرأسمالية العالمية في الوقت الراهن. فالحرب تقدم فرص استثمار هائلة للنخب العملاقة   والشركات عبر الوطنية، وعائدا مضمونا على رأس المال. كما تقوم الحروب أيضا بدور قمعي،حيث تساعد على إبقاء الشعوب المنكوبة تحت ضغط ثنائية الحياة والموت، بما يمنعها من بث شكواها، فضلا عن المطالبة بحقوقها”.

انهيار الحضارة الصناعية

في كتابه Killing Hope: U.S. Military and CIA Interventions Since World War II (قتل الأمل: تدخلات الولايات المتحدة الأمريكية ووكالة الاستخبارات المركزية منذ الحرب العالمية الثانية)، يقدم ويليام هوب مزيدا من التفاصيل عن وكلاء هذه النخب الذين يعملون خارج نطاق القانون بما يسبب اضرارا بالغة بمصالح الشعوب ويهدد الحياة على كوكب الأرض بوجه عام. وفي الفلك ذاته يدور كتاب Operation Gladio: The Unholy Alliance between the Vatican, the CIA and the Mafia (عملية غلاديو: التحالف غير المقدس بين الفاتيكان ووكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية وعصابات المافيا).

وفي مقالة أخرى بعنوان Elite Banking at your Expense: How Secretive Tax Havens are Used to Steal your Money (صيرفة النخبة على نفقتك الخاصة: كيف تستخدم النخبة ملاذات ضريبية سرية لسرقة أموالك)، يبرز روبرت بيروز تحذيرات خبراء الاقتصاد من تباطؤ معدلات نمو الاقتصاد العالمي، مما قد يودي به إلى حالة ركود كامل؛ ومن ثم يطالبون باتخاذ إجراءات عالمية حاسمة لتعزيز النمو الاقتصادي. لكن الحقيقة – من وجهة نظر بيروز – هي أن الحضارة الصناعية تتراجع بسرعة كبيرة في ظل توالي الكوارث المناخية والبيئية، ونضوب الثروات الطبيعية والحاجة إلى أزمنة جيولوجية لتجدد بعضها.

 ويخلص بيروز إلى ضرورة التعاون بين النشطاء في كافة المجالات، بدءا من المعنيين بوقف الحروب والقضاء على العنف وحقوق الإنسان، ووصولا إلى المهتمين بالتغيرات المناخية والتلوث البيئي من أجل وقف نزيف الحياة على كوكب الأرض، الذي ينذر بفناء غير بعيد.      

 رابط المقال  الأصلي هنا:

أحمد بركات

باحث و مترجم مصرى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock