رؤى

الدستور المصري.. مسارات وتحولات.. من محمد علي إلى ما بعد ثورة يناير

ونحن نعيش وقائع الاستفتاء على التعديلات الدستورية، ونحن نؤمن إيمانا كاملا بأهمية الدستور كركن ركين  من أركان الدولة الحديثة، لا تقوم دولة ولا نهضة بدونه، فإن تحديد الأولويات التى تكفل دستورا يسهم فى  انطلاق قاطرة الوطن إلى آفاق التقدم والبناء، يصبح أمرا ضروريا ومهما، ومن هنا جاءت قراءتنا لواحد من أهم فصول كتاب لافت فى عنوانه، جاد فى مضمونه وأهدافه، هو كتاب «من جوه نبدأ.. نقدات ثائرة ومنابر شاغرة» للدكتور عصمت نصار أستاذ الفكر العربى المعاصر الذى حاول فيه أن يضع روشتة للواقع المصرى فى أعقاب ثورة يناير وهو يمد عينه وعقله إلى سنين مضت فى تاريخنا المعاصر وبالتحديد عام 1950 حينما أصدر خالد محمد خالد كتابه. «بلاد من»؟ الذي هاجم فيه التوظيف السياسي للدين، واعتبر أهمية الدين متعلقة بتنوير حياة الناس لا أن يكون أداة لتطويعهم واستخدامهم اقتصاديا وسياسيا لتحقيق مصالح فئات بعينها، وأحدث كتاب خالد محمد خالد دويا هائلا يشبه ذلك الذي أحدثه كتاب علي عبدالرازق(الإسلام وأصول الحكم)، وقد اضطر أن يعيد إصدار كتابه بمسمى جديد (من هنا نبدأ)

د. عصمت نصار وكتابه «من جوه نبدأ.. نقدات ثائرة ومنابر شاغرة»

 لكن ما خلص إليه خالد محمد خالد في كتابه استفز المشاعر الدينية للشيخ محمد الغزالي الذي سارع في المقابل بإصدار كتابه (من هنا نعلم)، الذى هاجم فيه ما توصل إليه خالد محمد خالد، معتبرا الدين مفتاح الشخصية المصرية وهو ما راح يبينه في صفحات كتابه، الذي زعم أن الغرض منه بيان هذه الحقائق وليس الرد على كتاب خالد محمد خالد «من هنا نبدأ» لأن القافلة قد بدأت سيرها الخاطىء منذ سنين عديدة، ولم تكن في انتظار  خالد  محمد خالد لتهيم على وجهها في تلك المتاهة التي ينكرها الإسلام – على حد تعبيره-.

 ومع أنه كان قد مضى وقت طويل جدا على كتابى خالد محمد خالد والغزالى فإن الدكتور عصمت نصار قرر أن يشارك في تلك المثاقفة والمساجلة الشهيرة، ليدلي بدلوه بعد نحو ستين عاما أو يزيد بكتابه الذى أصدره عام 2012 والذي قدم فيه عددا من الدراسات الهامة التى اعتبرها سبيلا ضروريا لمحاولات النهوض العاثر، أو هي عتبات –على حد تعبير- لا نفرغ من واحدة حتى نخطو الأخرى في سبيل الصعود.

مسار الدستور المصرى

تناول نصار في كتابه قضية (الدستور) في فصل بعنوان (نحن والدستور.. إلى أين؟) قدم خلاله خلاصة التجارب الإنسانية في صياغة الدساتير متنقلا ما بين صياغة الدساتير في الحضارات الشرقية القديمة وعلى رأسها الحضارة المصرية القديمة

في دراسته تتبع نصار مسار وتطور الدستور المصري ابتداء من تلك المشروطية التي أبرمتها  القيادات الشعبية أو زعماء الشعب عام 1795م مع المماليك، وقانون ترتيبات المجلس العالي في عهد محمد علي 1833 والذي وردت فيه كلمة (الدستور) لأول مرة، وخط كلخانه الذي حرره السلطان عبدالمجيد الأول عام 1839م، ثم لائحة تأسيس مجلس شورى النواب الصادرة في أكتوبر 1866، واللائحة الأساسية الصادرة في 1882 ثم دستور 1923، ودستور 1930، والإعلان الدستوري في أعقاب ثورة يوليو الذى صدر عام 1953، ودستورى 1954 و1956.

Image result for ‫المجلس العالي‬‎

المجلس العالي

في دراسته يرصد نصار التحولات التي لحقت بفلسفة الدساتير المصرية تبعا لتغير ثقافات، وأيديولوجيات النخبة القائمة على صياغته حيث تظهر الميول الليبرالية حينا وتختفى حينا لصالح الاشتراكية العلمية، و أسلمة الدستور باعتبار (الإسلام دين الدولة الرسمي ومبادىء الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع) في دستور 1971، إلى تعديل المادة المذكورة في مايو من عام 1980 لتصبح (مبادىء الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع)، وهي مواد لم يكن يقصد بها أكثر من مداهنة الجماعات الإسلامية التي شاركت في الحياة السياسية المصرية بداية من عام 1928، ومنذ ثمانينات القرن الماضي بات  التغيير يؤكد على نقض مكاسب الشعب من الفكر الاشتراكي ويندفع نحو الليبرالية العشوائية في الأمور الاقتصادية والسياسية، وهو ما كان واضحا في الحزبية الوهمية، والتلاعب بأكليشيهات الديمقراطية (الأمة مصدر السلطات، التضامن الاجتماعي، رعاية محدودي الدخل، المساواة بين الرجل والمرأة، العدالة الاجتماعية) وغيرها من العبارات التي باتت فارغة الدلالة مع الإطاحة بجوهر الفلسفة الليبرالية.

Image result for ‫الدستور المصري‬‎

محددات الدستور

في تقييمه للتعديلات الدستورية التي أجريت في أعقاب ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011 رأى نصار أنها لم تغير من المنظومة شيئا يمكن وصفه بالإصلاح أو الإفساد، ذلك لأن توابع الثورات دائما ما تخلو من التأنى والحكمة، لذلك طرح نصار عددا من القواعد والمحددات، التي ينبغي أن تحكم كل محاولة لصياغة دساتيرنا او إجراء التعديلات عليها، ويأتي على رأس هذه المحددات

  • تحديد التصور الفلسفي للدستور المصري..بمعنى أن يدرك موقفه من السؤال حول ما إذا كان الغرض منه (أن يكون شرعي على منحى الإتجاه السلفي، مدني توفيقي على نهج التجديديين، علمي انتقائي، علماني أوروربي، توافقي تحت وصاية عصبة الخبراء وولاية الفقيه على النهج الإيراني، ليبرالي استبدادي كما عند هوبز)
  • تعيين فلسفة للدستور (ليبرالية المؤسسات، اشتراكية علمية، توفيقية انتقائية) مع تحديد منظومة القيم الأساسية التي تشكل جوهر الدستور ك(الأمن، والحرية، والعدالة، والصداقة، والانتماء، والولاء) وانتخاب الآليات التي تفعلها القوانين المختلفة في شتى مرافق الدولة ومؤسساتها.
  • وضع شروط وسمات دقيقة لشخصية الرئيس والاتفاق على آليات ترشيحه، ومدة ولايته وصلاحياته. في ظل استقلال السلطات الثلاث.
  • حماية الحريات العامة في ظل المشخصات القومية والثوابت العقدية والمصلحة العامة.
  • التأكيد على سلطة الأمة وتوعية الشعب بآليات ممارسة حقوقه والتزامه بواجباته.
  • وضع القوانين التي تحقق العدالة الاجتماعية والمساواة بين كل فئات وأفراد وطبقات الشعب.
  • فصل الدوائر الأمنية عن السلطة الحاكمة، بحيث تكون المرجعية الشرعية لهذه الأجهزة هي السلطتان التشريعية والقضائية.
  • إخضاع كل القرارات الاستراتيجية للهيئة البرلمانية، مما يقتضي تشكيلها من أهل الدراية والخبرة وإلغاء نسبة الخمسين بالمئة من العمال والفلاحين، على أن يسمح لهؤلاء بالترشح للانتخابات بعد تحصيل دبلوم مهني يمكنهم من ممارسة العمل التشريعي.
  • تشكيل مجلس شورى من الكفاءات العلمية بآلية تمكنهم من الإدلاء بالاستشارات العلمية ووضع الخطط المستقبلية، وتوجيه مؤسسات الدولة للصالح العام.
  • وضع معايير دقيقة لاختيار الهيئة القضائية مع ضمان عدم تدخل أي سلطة أخرى في ذلك.
  • حماية كيان الدولة الاقتصادي بالحفاظ على القطاع العام والثروات الطبيعية على نحو يمنع الاحتكار والاستغلال والتلاعب بالأملاك العامة.
  • حماية العمال والفلاحين ورعايتهم على نحو يكفل لهم حياة كريمة، بداية من البيئة الطبيعية، ونهاية بتثقيف عقولهم، والارتقاء بوعيهم.
  • تحديد الأجور على نحو يتناسب مع الدخل القومي في ظل سياسة تكافؤ الفرص.
  • التأكيد على مبدأ المواطنة، والتشديد على معاقبة المتلاعبين بالدين.
  • الحفاظ على استقلال البلاد وعدم الدخول في تحالفات عرقية أو دينية تهدد أمنها، والعمل على استرداد مكانة مصر الاستراتيجية والقومية في الشرق الأوسط.
  • توجيه كل مؤسسات الدولة للعمل على تنمية الشعور بالانتماء والولاء لمصر، مع الحفاظ على المشخصات(المحددات والثوابت) الثقافية والدينية والقومية.
  • الحفاظ على البنية الفلسفية للدستور، فلا يجوز تعديله بالإضافة أو الحذف إلا بموجب استفتاء شعبي تحت إشراف القضاء.

Related image

في نهاية دراسته يطرح نصار عددا من التساؤلات الفلسفية الهامة حول ما إذا كانت لدينا آلية انتقاء للنخبة التي تتولى وضع الدستور؟ ومعايير اختيارهم التي تعصمنا من اتهامهم بالخيانة والعمالة في حالة اختلافنا معهم؟ وهل تأسيس الدستور في حاجة إلى خبرة الساسة أم تقوى الشيوخ والقساوسة أم حكمة الفلاسفة أم حماس الثائرين أم دهاء المنتفعين؟

وما هي المعايير الحاكمة لانتخاب رئيس الجمهورية ونواب الأمة. المفضول، الأفضل، القوي العادل، الورع المستنير، السياسي المخضرم، الأصيل الثري، المستبد العادل، الزعيم الشعبي.. ينتهي نصار إلى أننا في حاجة إلى فلسفة ثورية تعيد بناء العقل الجمعي، وتعيد تدريبه على النقد والانتقاء، وتعصمه من الجموح والجنوح.

 

بلال مؤمن

كاتب و محرر مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock