ثقافة

قضية أثارها رحيل بشير السباعى: المترجمون.. جنود الحضارة المجهولون

لم يلتفت الكثيرون لأسماء اختارت لنفسها موضع الهامش لتعمل في سبيل ثقافتنا كجنود مجهولين في أغلب الأحيان. في طليعة هؤلاء الجنود يقف المترجمون العرب جسرا للانفتاح والتواصل الثقافي والحضاري بين العرب والامم والثقافات الاخرى إذ لايزال الكثير من هؤلاء المترجمين يمارسون واجبهم الحضاري ودورهم الثقافي، دون أن تُسلط عليهم الأضواء بالرغم من أهمية الترجمة في حياة الشعوب.

 بشير السباعي واحد من هؤلاء الكبار في مجال الترجمة، ومن مآسي عصرنا الراهن أن تلفت أنظارنا إليه فاجعة غيابه، أكثر مما أثار حضوره بيننا. فلم ينل هذا الرجل حيا الاهتمام والتقدير الذي كان يستحقه، بالنظر إلى حجم الدور الذي قام به على مدار سنوات عمره الخمسة والسبعين، وهو الذي ترجم من وإلى العربية من ثلاث لغات مختلفة هي الإنجليزية والفرنسية والروسية نحو سبعين عملا إبداعيا وفكريا.

عاش السباعي مخلصا للثقافة والترجمة بعيدا عن الصخب والادعاء، وفضاءات الإعلام، قضى سنوات طويلة من جهده وبحثه ومثابرته على ترجمة ونقل موسوعة «هنري لورنس» بأجزائها الستة، بينما شغلت سنواته الأخيرة العمل على ترجمة كتاب «الأزمات الشرقية» للمؤلف نفسه، والذي صدر الجزء الأول من ترجمته الشهر الماضي عن المركز القومي للترجمة بينما لم تسعف السباعي حياته لاتمام مهمته التي كان فيها متسقا مع ذاته، ومخلصا لانتمائه ومواقفه كمناضل يساري.

Related image

الترجمة.. ومشروع النهضة

إذا كان الجدل يحتدم ما بين المثقفين المعاصرين في ظل الأزمات والصراعات التي تحيق بعالم يوشك أن يعلن عن اندلاع حربه العالمية الثالثة، فإن المترجمين هم الأكثر دلالة على ما يمكن أن يكون ما بين حضارات العالم المختلفة، قديمها وحديثها من تلاقح وحوار، فقد جعلوا من التعرف على لغة الآخر وثقافته ومنجزات حضارته ونقلها إلى لغاتهم وثقافتهم الأصلية، وسيلة لخلق  قواسم مشتركة ومساحات للتلاقي الانساني والحضاري أكثر رحابة وتحررا من حسابات وصراعات السياسة واكراهاتها.  

الترجمة وسيلة حضارية، وجسر يمتد ليربط ما بين ثقافات العالم المتباينة، وعلى أكتاف النَقَلة والمترجمين عادة ما تنشأ الحضارات وتستقيم ألوان الفنون، وهكذا نشأت الحضارة العربية الإسلامية على أكتاف المترجمين العرب لمنجزات الفلسفة والحضارة اليونانية، ونشأت الحضارة الغربية المعاصرة على أكتاف المترجمين لشراح وفلاسفة الحضارة الإسلامية كالفارابي وابن سينا وابن رشد وغيرهم.

وقد كانت نقطة إنطلاق ما سمي بمشروع النهضة العربية الحديث هى الترجمة، باعتبارها الوسيلة المثلي للالتحاق بالركب الحضاري، فأنشئت مدرسة الترجمة، وانطلقت جهود جيل من أعاظم المترجمين كرفاعة الطهطاوي، وأحمد فارس الشدياق، وبطرس البستاني مترجم الإنجيل الذي لولاه ما اطلع المسيحيون العرب على كتابهم المقدس وما درسوه في  أوطانهم.

مهمة صعبة

والترجمة علم قديم له قواعده ومناهجه التي دأب المترجمون على استخلاصها من ثمرة جهدهم في نقل ثقافات وعلوم الآخرين، وقد تختلف تلك القواعد بين المترجمين نتيجة للتباين والاختلافات في التجارب العملية، ما بين طبيعة الأعمال المتًرجمة، واللغات التي تُنقل عنها، وتطور مفردات اللغة ما بين حين وآخر، نتيجة التأثر والتأثير المتبادل بين الثقافات.

والترجمة ذوق وفن تحتم على من يُقبل عليها امتلاك ملكاتها، وإلا كانت محاولاته مسوخا مشوهة لا طعم لها ولا لون، فالمترجم لا يقرأ النص كقارىء مستمتع، وإنما يغوص ما بين مفرداته ليستخلص إيماءات الكاتب وإيحاءاته ومقاصده، ويستشف مشاعره وأحاسيسه ومكنوناته، ويستنطق ما صمت عنه النص الأصلي، وهي مهمة تبدو أصعب من محاولة الإبداع الخالصة. فللمؤلف أن يطوع مفردات اللغة لأحاسيسه ومعانيه، أو يطوع أحاسيسه ومعانيه لمفردات اللغة، بينما لا يملك المترجم مساحة مماثلة  ليفك إشكالات التساوي ما بين المعني والإحساس، وقد تكون بعض المعاني غامضة ملتبسة في ذهن المؤلف، لكن المترجم مطالب بأن يقدم أفكار من يترجم عنه في وضوح واستقامة.

 وفي هذا يقول شيخ المترجمين «محمد عناني» في مقدمة كتابه فن الترجمة (إذ أحيانا ما تكون الفكرة في النص الأجنبي غامضة في ذهن كاتبها، أو أحيانا ما يكون قد أساء التعبير عما يريد أن يقوله، ولكن القارىء العربي لن يغفر للمترجم إخراجه نصا غامضا، ومن ثم يكون على المترجم أن يبحث عن تفسير مقنع لما يقرؤه، وأن يطمئن إليه حتى يضمن وضوح الفكرة المترجمة)

Image result for ‫شيخ المترجمين «محمد عناني‬‎

شيخ المترجمين «محمد عناني»

لذلك كثيرا ما يؤكد المترجمون على أهمية ما يسمى ب «الرحم الثقافي للنص»، ويقصد به السياق الاجتماعي والثقافي المٌنتٍج للنص الأدبي، ففهم إشكالات النص وشروط إنتاجه التاريخية والفنية والثقافية شرط أساس للمترجم حتى يستطيع نقله من لغته الأم إلى لغات العالم المختلفة.

ولقد كان للمترجمين العرب الفضل في تعرفنا على كثير من إبداعات العالم الأدبية والثقافية والعلمية في مختلف اللغات،  فمن خلالهم تعرفنا على كلاسيكيات الأدب الفرنسي والروسي والإنجليزي والألماني وحتى الياباني والإسباني، وتعلق القراء بلغة وتعابير وسطاء (مترجمين) مبدعين أمثال فقيدنا (بشير السباعيوسامي الدروبي، عادل زعيتر، محمد عناني, إمام عبد الفتاح إمام، شوقي جلال، ماهر شفيق فريد، صالح علماني، جبرا إبراهيم جبرا، منير البعلبكي، عفيف دمشقية، ورؤوف عباس، وغيرهم العشرات من المترجمين الذين كانوا بمثابة جسور حضارية ممتدة ما بين ثقافتنا العربية، والعديد من ثقافات ومنجزات العالم الحضارية في لغاتها وأوانيها المتعددة.

بلال مؤمن

كاتب و محرر مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock