منوعات

محمد رفعت.. الشيخ الزاهد الذي غزا صوته الدنيا دون أن يغادر وطنه

حين سئل الشيخ الشعراوي رحمه الله عن قراء القرآن الكريم في مصر قال: منهم قمة الإحكام كالحصري مثلا، ومنهم قمة الصوت الجميل كعبد الباسط، ومنهم قمة الفن الرفيع كمصطفى إسماعيل، ومنهم جامع لكل ذلك في ائتلاف لا يرتفع فيه فن على فن كالشيخ محمد رفعت، فهو كل هؤلاء جميعا.

وحينما سئل الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب عن الشيخ محمد رفعت قال: إن صوته يعنى الجمال والجلال وفيه خشوع  يشعر به كل من يسمعه.. وكلما كان عبد الوهاب يريد أن يسمع الشيخ رفعت كان يذهب إليه وحين يستعد الشيخ الجليل  لبدء تلاوته كان الموسيقار الكبير يترك كرسيه لينزل إلى الأرض ويجلس تحت قدمي الشيخ رفعت مستمعا لآيات الذكر الحكيم.

من منا لا يحرص على سماع القرآن من الشيخ محمد رفعت خصوصا في شهر رمضان؟ من منا لا يجد لذة روحية آسرة وهو يستمع إلى الرجل الذى ملأ صوته المرتل للقرآن الدنيا وشغل الناس؟ من منا لا يتناول إفطاره الرمضاني على صوت الشيخ  رفعت الذى أصبحت تلاوته قبل مغرب كل يوم رمضاني وأذانه للمغرب معلما وملمحا رمضانيا ثابتا ومستقرا في الوجدان والذاكرة الجمعية للمسلمين في مصر وربما العالم العربي كله؟

نبوغ مبكر

ولد الشيخ محمد رفعت محمود رفعت محمد رفعت في التاسع من مايو عام 1882 بدرب الأغوات بحي المغربلين بالسيدة زينب فى القاهرة، واسمه مركب كما اسم والده وجده، وكان أبوه مأمور قسم شرطة الجمالية، وكان طفلا جميل الطلعة والمنظر وحين كان في الثانية من عمره فقد بصره، ويقال إنه خرج مع والدته ذات يوم، ورأته  امرأة حسود، فنظرت إليه نظرة حاسدة وقالت: «الطفل ده باين عليه ابن ملوك، وعينيه الجميلة بتبين كده» فلما عاد مع والدته إلى بيتهم شعر بآلام رهيبة في عينيه وأصابه رمد شديد وعالجه أهله بالوشم والوصفات التقليدية الشعبية الخاطئة فذهب بصره تماما، وهو نفس ما حدث بعد ذلك بسنوات قليلة مع طه حسين.

اهتدى والد محمد رفعت إلى أن خير ما ينفع ابنه في دنياه وآخرته هو أن يتعلم القرآن الكريم، فعهد به وهو في سن الخامسة، إلى كتاب مسجد فاضل باشا القريب من بيتهم، وتولى الشيخ محمد حميدة تحفيظه القرآن الكريم، وأوتى الطفل الصغير من الفطنة والذكاء والقدرة على الحفظ والتعلم الكثير، فحفظ القرآن كاملا في وقت قصير، فلما بلغ التاسعة توفى والده ووجد محمد رفعت نفسه مسئولا عن أمه وخالته وشقيقته وشقيقيه، أي مسئولا عن أسرة قوامها خمسة أفراد غيره، فبدأ يحيى الحفلات والموالد ويقرأ في سرادقات العزاء حتى ذاع صيته كثيرا في كل أنحاء القاهرة، خاصة مع نبوغه في أحكام القراءات والتجويد التي تعلمها على يد الشيخ عبد الفتاح هنيدي.

الشيخ الزاهد

ذاع صيت الشيخ محمد رفعت كثيرا وأصبح مطلوبا في مصر والدول العربية بل وأغلب دول العالم، لكنه لم يكن يحب السفر خارج مصر، ورفض عروضا كثيرة هائلة كان القريبون منه يتعجبون كيف يرفضها، فمثلا رفض أن يسافر إلى الهند لإحياء حفلات هناك عند مهراجا هندي شهير عرض عليه أن يمنحه خمسة عشر ألف جنيه مصري (كان هذا المبلغ ثروة طائلة بمقاييس ذلك الزمان)، ووسط له صديقه الموسيقار محمد عبد الوهاب الذى أبدى له استعداده للسفر معه ومرافقته، لكن الشيخ رفعت أصر على رفض السفر بعيدا عن مصر، وظل وفيا لبلده ووطنه ووفيا كذلك لمسجد فاضل باشا بالسيدة زينب الذى ظل مداوما على القراءة به حتى من بعد شهرته العريضة وعين قارئا للسورة بالمسجد براتب شهري لا يزيد عن ثلاثة جنيهات.

وحين ذاعت شهرة الشيخ وكثرت حفلاته، كان من حسن حظ محبى القرآن الكريم بل من حسن حظ المسلمين جميعا أن قيض للشيخ رفعت مريدا هو زكريا باشا مهران من أعيان القوصية التابعة لأسيوط، والذي كان يتابع كل حفلاته والمناسبات المختلفة التي أحياها ليجمعها في عدد من الأسطوانات ليصل إلينا جزء كبير من تراث الشيخ رفعت في تلاوة القرآن الكريم.. تلك التلاوة العذبة البديعة الشجية المنتقلة من مقام إلى مقام بسهولة ويسر والمحلقة بمستمعيها إلى آفاق عالية من السمو الروحي والوجداني، حتى بات الشيخ ملقبا بـ«قيثارة السماء»

فتوى رسمية

 حين بدأت الاستعدادات لبدء البث الرسمي للإذاعة اللاسلكية للحكومة المصرية طلب المسئولون وقتها من الشيخ محمد رفعت أن يفتتح إرسال الإذاعة بالقرآن الكريم، لكنه رفض تماما لاعتقاده أنه بما أن المذياع يوجد في أماكن اللهو، فكيف يخرج صوته عبر الأثير فيسمعه سكران أو مخمور؟ فلما استمر الإلحاح عليه طلب فتوى من شيخ الأزهر شخصيا، فأفتاه شيخ الأزهر آنذاك الشيخ محمد الظواهري بأن قراءته عبر أثير الإذاعة جائزة تماما، بل وقال له إن الله قد يهدى بصوته وتلاوته عاصيا وهذا من أعظم الأعمال التي نتقرب بها إلى الله، واقتنع الشيخ رفعت بفتوى شيخ الأزهر ليتجلى صوته صادحا بالقرآن الكريم في افتتاح الإذاعة المصرية يوم الحادي والثلاثين من مايو 1934 وهو يقرأ (إنا فتحنا لك فتحا مبيناً).

في عام 1943 أصيبت حنجرة الشيخ رفعت بالزغطة المتواصلة وعجز عن قراءة القرآن واكتشف الأطباء أن الشيخ قد أصيب بسرطان الحنجرة وباع الشيخ منزلا وقطعة أرض للإنفاق على العلاج، ولما علم كبار الكتاب والمثقفين بالأمر أطلق الصحفي الشهير أحمد الصاوي حملة كبيرة لجمع التبرعات لعلاج الشيخ رفعت وتسفيره للخارج لكى يعالج لدى أشهر الأطباء، وفى غضون أيام قليلة بلغت جملة التبرعات خمسين ألف جنيه مصري، وهو مبلغ كبير جدا بمقاييس ذلك الزمان، لكن الشيخ الزاهد المكتفي بجوار ربه وقرآنه الكريم رفض رفضا باتا وطلب إعادة التبرعات إلى المتبرعين الذين ذكروا أسماءهم عند تبرعهم، والتصدق بتبرعات فاعلي الخير الذين لم يذكروا أسماءهم على الفقراء والمحتاجين وقال لمن ألحوا عليه بقبول التبرع: «إن الله هو الشافي وقارئ القرآن لا يهان ولا يدان». ولذلك كان طبيعيا أن يقول عنه شيوخ ثقاة إنه القارئ الذى ينطبق عليه تماما وصف (خادم القرآن)..

وفى التاسع من مايو عام 1950 رحل الشيخ محمد رفعت قيثارة السماء وصاحب أجمل صوت قرأ القرآن الكريم في عصرنا الحديث.. رحل الشيخ الجليل في نفس اليوم الذى وافق يوم مولده عن ثمانية وستين عاما بالتمام وبالكمال رحمه الله.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock