مختارات

ماذا تعني عودة «دواعش» ليبيا؟

في وقت تتواصل المعارك في ليبيا بشكل يتسم بمقدار من الغموض الذي سبق لنا عرض أسبابه، وتتأكد معها توقعاتنا بأن امتدادها زمنياً سيزداد معه بروز الأدوار الخارجية، وكذلك البعد القبلي، فإن الهجوم الأخير لتنظيم «داعش» الإرهابي على وحدة عسكرية للجيش الليبي في سبها جنوب البلاد، ثم تكراره في الجنوب مع انشغال الجيش حول العاصمة في الشمال يثير أبعاداً مهمة، سواء في ما يتعلق بطبيعة الصراع في ليبيا أم ما يتعلق بطبيعة هذا التنظيم ذاته. وكلا البعدين يؤكدهما بشكل أو آخر التصريحات الصادرة عن «حكومة الوفاق» الليبية بأن عودة «داعش» إلى ليبيا جاءت بسبب تقدم الجيش الليبي بقيلدة اللواء حفتر إلى طرابلس، ما يذكرنا بتصريحات قيادي «إخواني» المصري المعروف، بأنه في اللحظة التي يعود فيها الرئيس المخلوع مرسي إلى الحكم سيتوقف الإرهاب في سيناء.

وربما علينا العودة إلى الخلف قليلا، لمراجعة بعض الوقائع المؤلمة التي ظهر خلالها هذا التنظيم الأكثر قسوة في تاريخ العنف والإرهاب والمتستر باسم الدين كذباً، وتحديداً في الساحة الليبية. فالسائد أن بضع مئات من المقاتلين الليبيين في صفوف تنظيم «داعش» الأم في سورية والعراق والذين عرفوا باسم «لواء البتار»، وبعد أن أعلنوا البيعة للتنظيم الأم وقائده أبوبكر البغدادي، عادوا إلى ليبيا في 2014، وأنشأ هؤلاء، ربما مع آخرين «مجلس شورى الإسلام» في درنة التي سيطرت عليها هذه العناصر المتطرفة لسنوات عدة، حتى تم تحريرها بواسطة الجيش الوطني أخيراً، من المهم أيضاً تذكر أنه في العام ذاته ترددت أنباء تكاد تكون مؤكدة بأن سفينة تركية ممولة قطرياً قامت بنقل عدد من مقاتلي «داعش» من الساحة السورية إلى ليبيا، حيث ساعد ذلك في حسم معركة السيطرة على مطار طرابلس، وانسحاب قبائل الزنتان التي كانت تسيطر على المطار في مواجهة الميليشيات المتطرفة المسلحة، ما فتح الطريق أمام هذه الميليشيات للسيطرة الكاملة على العاصمة. وفي هذا الإطار، تم إخراج باقي السيناريو الليبي المعروف، وهو إصدار الدائرة الدستورية في المحكمة العليا في مقر انعقادها في العاصمة الليبية المحتلة يوم 6 تشرين الثاني (نوفمبر) 2014 حكماً يقضي بعدم دستورية الفقرة الحادية عشرة من التعديل الدستوري السابع الصادر في آذار (مارس) من العام ذاته (2014)، الذي فُسّر على أنه يحل مجلس النواب على خلفية بطلان تعديل إعلان دستوري مؤقت، انتخب بموجبه المجلس، بينما رفض مجلس النواب هذا الحكم في ضوء محاصرة قوات «فجر ليبيا» الإخوانية المحكمة خلال هذه الجلسة.

في جميع الأحوال، استُخدمت هذه القوات أو العناصر «الداعشية» لترجيح كفة الإسلام السياسي في التوازن العسكري الهش في العاصمة بين الطرفين، وبمقتضى ذلك، خلق موقفا سياسيا، بمعنى حكم المحكمة العليا لتحسين الموقف السياسي لقوى الإسلام السياسي، بالتزامن مع تولي موفد دولي هو برناردينو ليون، أحد أبرز المروجين الغربيين لفكرة تسليم السلطة في العالم العربي إلى هذه القوى السياسية، لضمان الاستقرار ومصالح القوى الغربية في هذا الصدد. علماً أن ليون قام بمناورات سياسية للوصول إلى الاتفاق الدولي الذي استضافته مدينة الصخيرات المغربية وأطلق عليه اسمها، والذي تعسر نتيجة رفض مجلس النواب التجاوب معه، وإن كان أنتج ما أصبح يطلق عليه شرعية دولية لـ «حكومة الوفاق» التي يرأسها فائز السراج، التي تشكلت في البداية من عناصر متنوعة من قوى الإسلام السياسي وبعض القوى المدنية، وحتى أقلية من المنتمين إلى مجلس النواب التي تجاوبت مع الترتيبات الدولية. بعض هذه الأقلية يحاول الآن الحديث باسم المجلس في طرابلس، ولكن أحداً في العالم -غير ممثلي الإسلام السياسي في الداخل الليبي وخارجه- لم يعيرهم أي اهتمام، كونهم عدداً محدوداً لا يشكل نسبة يعتد بها من إجمالي أعضاء المجلس.

وخلال العامين 2014 و2015 تكررت بعض عمليات «داعش»، وكان أشهرها وأكثرها خسة عملية ذبح 21 من المسيحيين المصريين في سرت في 15 تشرين الثاني 2015، كما حاول التنظيم أن يبدو مسيطراً، فأعلن زعيمه البغدادي الحائز على بيعة الفرع الليبي عن إقامة ثلاث ولايات: برقة في الشرق، وفزان في الجنوب، وطرابلس في الغرب، وتم تنفيذ عدد من العمليات ضد الجيش الليبي أو القوى المدنية خلال هذين العامين، حتى تشكلت حكومة الوفاق الوطني أواخر العام 2015. وبعدها تراجع الحديث عن هذا التنظيم، إلا من بعض أخبار متفرقة عن مواجهات محدودة بينه وبين تنظيمات أخرى تدّعي أنها أكثر اعتدالاً كـ «فجر ليبيا» «الإخوانية»، وأيضاً من دون ورود معلومات تذكر عن خسائر في الأرواح من الجانبين، بمعنى دقيق، إزاحة الحلفاء «الإخوان» وإخفاءهم حليفاً يؤدي وظيفة، قد يتم الاستعانة به في مرحلة تالية.

من هنا كانت معارك استعادة الجيش الليبي لبنغازي ودرنة في مواجهة عدد متنوع من الميليشيات المتطرفة في المناطق الشرقية، لم يكن تنظيم «داعش» الأقوى بينها، ولكنه كان الحليف لها الذي يضع سلاحه في خدمتها، بينما تراجعت أخباره نسبياً في المنطقة الغربية حيث العاصمة، و«حكومة الوفاق» المدعومة «إخوانياً»، والتي زاد المكون «الإخواني» فيها بشكل مضطرد تدريجاً خصوصاً خلال العام الماضي.

عودة «داعش» إلى ليبيا اليوم، تشكل دليلاً واضحاً وصريحاً، على أن هذا التنظيم ليس إلا أداة ووظيفة تستخدمها أجهزة مخابرات دول معينة بالتعاون مع تنظيم «الإخوان المسلمين»، لتنفيذ مهمات صعبة لا تقوى عليها إلا عناصر تتسم بالعنف غير المحدود وغسل الدماغ، بما يضعف عزيمة الآخرين الذين لا يتجاوبون مع هذا البرنامج السياسي. والأهم من ذلك محاولة ترسيخ رسالة أن «الإخوان» فصيل سياسي معتدل، معارض لهذا التنظيم، وهي حجة واهية تثبت الوقائع كل يوم زيفها. فلو كان هذا صحيحاً، لكان الأمر اختلف في سنوات حكم «الوفاق» الليبية. وأياً كان، فإن تحرك التنظيم مجدداً في هذه المرحلة، يؤكد بوضوح هذه الرسالة، ويعني توقع المزيد من تحريك العناصر «الداعشية» المتبقية بعد هزيمة الميليشيات في المناطق الجنوبية إلى حد ما والشرقية بشكل أوضح، وكذلك تلك المستضافة في ليبيا الغربية برعاية «إخوانية». والأرجح أن هذا سيتم بقدر من الاعتدال، لحين انهيار خطوط الدفاع «الإخوانية» المسماة «فجر ليبيا». بعدها، يتم الدفع بهذه العناصر التي سيتوقف تأثيرها على مدى قوة الجيش الليبي، ومدى سرعة دعمه بمقاتلي القبائل، الأمر الذي تشير معلومات إلى بدئه من خلال قبائل الزنتان التي سبق لها لعب الدور الرئيس في وقف سيطرة الميليشيات حتى تطورات 2014 المشار إليها في ما سبق. في جميع الأحوال، يمكن القول أن المواجهات الحالية في ليبيا بالغة الأهمية في مستقبل الاستقطاب الراهن في المنطقة.

نقلا عن: الحياة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock