منوعات

محمود السعدني ومقالبه مع النرجسي التافه.. عودة متأخرة إلى «ملاعيب الولد الشقي»

قبل ربع قرن نشرت أخبار اليوم كتاب «ملاعيب الولد الشقي» لمحمود السعدني، جئت به ممنيًا نفسي بمتعة سبق لي تذوقها مع كتابات السعدني، ولكن خاب ظني فنفرت من الكتاب، لأني وجدته قائمًا على سرد «مقالب» صنعها السعدني لحشد من الناس. المقلب بطبيعته هو سخرية حادة تصل لدرجة إيذاء الضحية، وذلك سلوك أنفر منه ولا أرى به فنًا يستحق عناء كتابته.

نفوري من المقالب جعلني لا أشغل نفسي بضياع نسختي من الكتاب، ثم حدث أن أجبرتني ظروف العمل على البحث عن معلومة انفرد السعدني بذكرها في كتابه فقمت بشراء نسخة حديثة صادرة من «دار الشروق»، راجعت المعلومة ثم وجدتني أعيد قراءة الكتاب بعين جديدة، فرأيتني قد ظلمت السعدني لأن رسالة كتابه كانت تحتاج لنضج لم أكن أتمتع به.

عن النرجسيين

كتاب السعدني في عمقه هو كتاب متفرد عن النرجسيين الذين يرون أنفسهم فوق كل شيء، بل لا يرون هذا الشيء الذي هم فوقه لأنهم لا يرون سوى ذواتهم. ولكي تتضح رسالة الكتاب، أنقل ـ بتصرف يسير ـ عن المحلل النفسي الدكتور يحيي موسى شرحه لرؤية النرجسي لذاته، فيقول: «كل إنسان لديه ذاتٌ ولديه صورة عن ذاته، إلا المصاب بأعلى درجات النرجسية «النرجسي»، فهو لا يمتلك ذاتًا، لقد دفن النرجسي ذاته التي ولد بها، لأنه يشعر بعار ما وبخزي ما، ولأن حياته لن تستمر بدون ذات، فهو يلجأ إلى خلق ذاته التي يرضى هو عنها، ثم بعد قليل تصبح هذه الصورة التي خلقها هي ذاته الفعلية التي فصلّها تفصيلًا بوحي من خياله الجامح، ومع الأيام ترسخ صورة الذات التي خلقها، فيؤمن النرجسي أن الصورة هى ذاته، فيبدأ في التعامل مع المحيطين به بوصفه أحسن وأعظم وأجمل منهم جميعًا، ثم سرعان ما يؤمن بأنه الأحسن والأعظم والأجمل، ولا يعد يرى المحيطين أصلًا، ويوم يتعطف عليهم بنظرة، فهو ينظر إليهم بوصفهم مجرد دمى يلهو بها حينًا ثم متى شاء كسرها. هؤلاء (النرجسيون) لعنة من لعنات الزمن، لأنهم ببساطة من مصاصي الدماء يعيشون على امتصاص مشاعر وعواطف ومحبة واهتمام الآخرين، ثم يصيبهم الملل فيبحثون عن ضحية جديدة ولا يشبعون أبدًا ولا يشكرون أبدًا، ثم لا يكفون عن الشكوى لأن الدنيا لا تعطيهم مقابل عبقريتهم التي يؤمنون بها كل الإيمان.

أبطال كتاب السعدني ضربهم هذا النوع من النرجسية، فراحوا يسلكون في الحياة مسلك العظماء، وهم على حقيقتهم من صعاليك البشرية ولا يتمتعون بأدنى قدر من العظمة التي يفرضونها على الناس فرضًا. كتب السعدني حوادث كتابه بصراحة عجيبة، فهو يقول إن فلانًا الشهير جدًا قد صنعت معه المقلب الفلاني، وبعض تلك المقالب كادت أن ترسل بالسعدني إلى وراء الشمس كما يقولون.

السيد «أ .ن .ح» وقصصه التافهة

ورغم صراحة السعدني التي اعتمدها في كل كتابه فإن فصلًا واحدًا رمز فيه لبطل الواقعة بالأحرف، وهو ما لم يصنعه في بقية الكتاب.. فالسيد «أ . ن . ح» بطل أحد مقالب السعدني كان يؤمن بأنه قصّاص عظيم وخطير، وذلك في زمن سطوع نجم يحيي حقي ويوسف إدريس وغيرهما من أكابر كتاب القصة القصيرة، وتلكم أولى علامات النرجسية. ذهب السيد «أ . ن . ح» إلى الأديب الشهير يوسف السباعي، وقدم إليه مجموعته القصصية التي تحمل عنوان «في سبيل الحياة». ولا نعرف هل طالعها السباعي أم لا؟ لكنه قام بتقديم المجموعة للسعدني لكي يكتب لها مقدمة. قرأ السعدني المجموعة فجُن جنونه، لقد كانت القصة الأولى تبدأ هكذا: «يا رجال الفضيلة إن زوجتي بالحديقة.. إنها بالحديقة». وكانت بداية القصة الثانية تقول: «يا بوليس الآداب إن زوجتي بالحديقة.. إنها بالحديقة». ومع مطلع كل قصة كان الكاتب يأتي بهيئة جديدة، لكي يخبرها أن زوجته بالحديقة، فهو ينادي الأزهر الشريف وبقية مؤسسات الدولة لكي يقول: «إن زوجته بالحديقة.. إنها بالحديقة».

يحى حقي،               يوسف السباعي،                      يوسف إدريس

أمسك السعدني قلمًا وكتب مقدمة جاء فيها: «هذا كاتب متقدم على الفصيلة الأولى، مندفع نحو الشفق، مضروب على قفاه».

ظاهر أشد الظهور أن هذا الكلام هو هجاء لا مدح فيه، ولكن هل النرجسي سيرى هذا الهجاء؟.. بالطبع لا.. فالنرجسي مبرأ من كل خطيئة  فكيف لك أن تهجوه؟ النرجسي لا يخطىء أبدًا، فأنت إن شتمته فهو لن يسمع شتائمك، لأنه هناك فوق السحاب، ثم لا أنت ولا غيرك تجرؤ على شتيمته، فأنت دائمًا تقصد غيره.

لم يتوقف السعدني بعد مقدمته الهجائية هذه.. بل كتب عشر صفحات من تلك النوعية جاء فيها: «إن الكاتب هو المترامي في اللانهائي المتوازي مع الإردوازية المصنوعة من عجين أصفر شفاف». ثم ختم مقدمته كاتبًا: «وهذا الكاتب ينبغي تكريمه برجمه بكتل الذهب والفضة، ليكون عبرة للآخرين، حتى لا يفكر أحد مثله في الكتابة.. لأن هذا النوع من الكتابات الساحرة يمكن أن ينقلب سحرها، فيقتل قارئها وبائعها وحاملها وطابعها، مع أن الزمن لو أنصف وعدل لكان القتل من نصيب كاتبها.. فهذا هو الجزاء الوحيد لمن يرتفع بفنه إلى عنان السماء فيكون له المسير والمصير والعصير أيضًا».

الهجاء الذي جلب شهرة

جاء الكاتب السيد «أ. ن . ح» وأخذ المقدمة من السعدني وفرح بها أشد الفرح!.. فغضب السعدني من نفسه، لأنه رأى أنه فشل في السخرية من الكاتب، ثم بعد أيام كان السعدني سائرًا في الشارع فسمع صيحات باعة الصحف: اقرأ كتاب في سبيل الحياة تقديم الكاتب الكبير محمود الصعيدي!.. كان السعدني قد وقعّ باسم مستعار لكي ينجو من الكاتب عندما يكتشف سخريته منه. ذهب السعدني حاملًا غضبه إلى الشاعر الكبير كامل الشناوي، الذي يقول عنه السعدني إنه كان على علاقة مباشرة بنصف الشعب المصري، وقص عليه حكاية المقدمة التي جلبت الشهرة لكاتب تافه لا يعرف من الكتابة شيئًا. قام الشناوي بالاتصال بمعارفه الكثيرين وأوصاهم بشراء نسخة من كتاب «في سبيل الحياة».

Image result for ‫كامل الشناوي‬‎

 كامل الشناوي

اتصالات الشناوي أسهمت في نفاد الطبعة الأولى في خلال أيام قلائل!.. ثم كان أن أحدهم كشف للكاتب النرجسي مقلب مقدمة السعدني، ولأن النرجسي تافه جدًا لا يمكن أن يرى عيوبه، ولا أن يرى سخرية الناس منه، ولكن بتدخل أحدهم هذا، غضب الكاتب وذهب إلى روز اليوسف لكي يقف وقفة مع السعدني الذي جعله مسخًا، هنا تدخل الكاتب الراحل حسن عثمان زميل السعدني، وقال للكاتب: هون عليك لقد حدث خطأ فني فذهبت مقدمة محمود الصعيدي إلى كتابك وذهبت مقدمة كتابك لكاتب آخر. فورًا أقتنع النرجسي التافه بهذا التبرير المضحك، فما كان من السعدني إلا أن بارك له نجاح كتابه وتعهد بأن يكتب مقدمات جديدة لإبداعه القادم!.

وعلى هذا المنوال يمضي كتاب السعدني كاشفًا عن أمراض النرجسيين الذين يريدون فرض عظمتهم المتخيلة فرضًا، وللأسف ينجحون في أحيان كثيرة في الفوز بفرص ما كان لهم أن يفوزوا بها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock