رؤى

مفهوم الحضارة.. القناع الذى استخدمه الغرب لتبرير سياساته الاستعمارية

يرجع الفضل في تداول مفهوم الحضارة على نطاق واسع داخل الأوساط الأكاديمية في نهاية القرن الثامن عشر إلى الفيلسوف الاسكتلندي آدم فيرجسون، وكان يعني بها تلك المرحلة من تطور المجتمع البشري التي تتسم بوجود عدد من الظواهر مثل الطبقات الاجتماعية والمدن والكتابة وغيرها، أما المراحل السابقة على هذه المرحلة فيعدها فيرجسون «همجية وبربرية». وفي مقاله الذى حمل عنوان On the History of Civil Society (في تاريخ المجتمع المدني)، يؤكد فيرجسون: «يستمر هذا التقدم في حالة الإنسان إلى مدى أبعد مما يمكن أن يصل إليه في حالة أي حيوان آخر. فالفرد لا يتقدم فقط من الطفولة إلى الرجولة، وإنما يتطور النوع نفسه من البدائية إلى الحضارة»

الحضارة من منظور غربي

وقد تبنى العديد من الباحثين والمفكرين نهجا مشابها في مراحل لاحقة، خاصة في فترة وجود الاتحاد السوفيتي، وذلك بسبب تبني فريدريك إنجلز لهذه الرؤية. ولا تزال هذه الحتمية تمارس نفوذها حتى يومنا هذا، ومن هنا تأتي بعض التعبيرات، مثل «النهج الحضاري»، و«المجتمع المتحضر»، وغيرها. كما قدم المفكر الإنجليزي جون بوسويل فكرة مشابهة.

وفي كتابه The Civilizing Process: Sociogenetic and Psychogenetic Investigations (عملية إضفاء الطابع الحضاري: بحوث في التركيب الوراثي الاجتماعي والنفسي) الصادر عام2000 ، يؤكد عالم الاجتماع الألماني نوربيرت إلياس أن مفهوم الحضارة «يعبر عن الوعي الذاتي للغرب»، ويضيف: «يسعى المجتمع الغربي من خلال هذا المفهوم إلى وصف ما يشكل شخصيته الخاصة، بدءا من مستوى التقنية الذي توصل إليه، وطبيعة آدابه وأخلاقه، وتطور معارفه العلمية ورؤيته الكونية، وغير ذلك». لكن الحضارة عند إلياس «لا تعني الشيء نفسه عند جميع الدول الغربية». وبصورة إجمالية، يوجد فارق كبير بين الاستخدام الإنجليزي والفرنسي لهذا المصطلح من جانب، والاستخدام الألماني له من جانب آخر. فعند الإنجليز والفرنسيين، يُجْمل مفهوم الحضارة مفاخرهم بالدور المحوري الذي لعبته بلدانهم في تقدم الغرب والجنس البشري بوجه عام. أما في الاستخدام الألماني، فإن الحضارة (Zivilisation) تعني الشيء المفيد حقا، لكنه مع ذلك لا يمثل سوى قيمة من المرتبة الثانية».

وكملمح أساس في المدرسة الألمانية، يتشارك إلياس مع الفيلسوف والمؤرخ الألماني أوسفالد شبينجلر الرؤية حول الفروق ذاتها بين ’الثقافة‘ (Culture) و’الحضارة‘ (Civilization). وإذا كانت الحضارة تهون من شأن الفروق بين الدول، فإنه «بالقدر الذي يعبر به مفهوم الحضارة عن التوجه التوسعي الواعي لدى المجموعات الاستعمارية، فإن مفهوم «الثقافة» يعكس حجم الوعي بالذات لدى كل دولة يتعين عليها دائما البحث عن حدودها، وترسيخها مجددا، سواء على المستوى السياسي أو الوجداني، وأن تواجه نفسها مرارا وتكرارا بالسؤال عن هويتها الحقيقية».

أوسفالد شبينجلر                                 نوربيرت إلياس

وفي بحثه لأصول التباين بين «الثقافة» و«الحضارة»، يستشهد إلياس بالفكرة التي طرحها الفيلسوف الألماني، إيمانويل كانط، في عام 1784، عن تاريخ عالمي يتم كتابته من وجهة نظر كوزموبوليتانية «عالمية»، حيث تؤكد الفكرة أن «مثالية الأخلاق تنتمي إلى الثقافة، أما استخدامها من أجل قولبة إطار أخلاقي، أو وضع ’ديكور خارجي‘ فهو ما يشكل الحضارة». بعبارة أخرى، فإن الحضارة، -بحسب كانط- هي نوع خاص من السلوك، حتى لو تم فرضه بطريقة متكلفة بهدف إضفاء الشرعية على أوضاع اجتماعية معينة.

وفي فرنسا، يُنظر إلى النشأة الاجتماعية لفكرة الحضارة على نحو مماثل. ويمكن العثور على أول دليل أدبي على تطور الفعل ’civilizer‘ (يهذب – يثقف) داخل سياق مفهوم الحضارة في كتابات الكونت دي ميرابو في ستينيات القرن الثامن عشر، حيث كتب ميرابو: «أتعجب أن أرى كيف كانت أفكارنا المستنيرة خاطئة بشأن ما يتعلق بما اعتبرناه حضارة. إذا سئل الناس عن ماهية الحضارة، فإن معظمهم سيجيبون بأنها تهذيب الأخلاق والكياسة والأدب ونشر المعرفة، بحيث تحل هذه المنظومة الأخلاقية محل القانون». ويضيف ميرابو «كل هذا لا يمثل بالنسبة لي سوى قناع الفضيلة، وليس وجهها الحقيقي، والحضارة في واقع الأمر لا تقدم شيئا للمجتمع ما لم تقدم له مظهر الفضيلة وجوهرها على السواء».

الكونت دي ميرابو

استغلال مفهوم «الحضارة»

ويخلص عالم الاجتماع الألماني نوربيرت إلياس في كتابه إلى أن «مفاهيم مثل الأدب والكياسة – السابقة على ظهور وترسخ مفهوم الحضارة – كانت لها نفس وظيفة المفهوم الجديد، وهي التعبير عن التصور الذاتي للطبقة العليا الأوربية مقارنة بطبقات أخرى يتسم أعضاؤها بالعفوية والبدائية، وفي الوقت نفسه إبراز نوع محدد من السلوك الذي تشعر من خلاله هذه الطبقة بتميزها عن الطبقات الأخرى».

يعني هذا أن البرجوازيين والأرستقراطيين كانوا ينظرون إلى أفراد منتمين إلى الدولة نفسها، أو إلى الشعب نفسه باعتبارهم «همجيين» رجعيين. وإذا كانت الطبقة العليا في جميع أنحاء أوربا قد اصطدمت في وقت سابق بالطبقات الدنيا «الغوغاء»، فإن عصر الثورات البرجوازية قد تمخض عن فكرة جديدة مفادها أن المجتمع بجميع أطيافه وطبقاته يمكن أن يرد موارد ’الحالة الحضارية‘.

لقد احتاج الغرب إلى مفهوم ’الحضارة‘ ليبسط سلطانه ونفوذه على مناطق أخرى من العالم من خلال نظام قائم على القهر والاستعباد بأشكال مختلفة. ويؤكد إلياس «بهذه الطريقة تتمدد البنى المصدرة للحضارة باستمرار داخل المجتمع الغربي، وتتجه كل من الطبقتين العليا والدنيا إلى أن تصبحا نوعا من الطبقة العليا، ومركزا داخل شبكة مترابطة تنتشر على نطاق واسع في جميع أنحاء العالم. ويخلص إلياس إلى أن ’انتشار الحضارة‘ – بناء على ذلك – يمثل عملية اختراق فج من قبل المؤسسات والمعايير السلوكية الغربية لدول أخرى. وتستطيع الدول غير الغربية أن تنضم طواعية إلى هذه العملية بقدر ما يرون أنهم بحاجة للبقاء على قيد الحياة، ومن ثم يتجاوز الأمر حدود الاستعانة بالمهارات التقنية، ويمتد إلى استيراد القيم والسلوك ’المتحضر‘ حتى يتسنى لها الدخول إلى هذه الشبكة. لكن مركز هذه الشبكة يبقى في نهاية المطاف في يد الغرب».

وفي الوقت الحالي، تضاعفت الانتقادات الموجهة ضد الحضارة الغربية في «صيغتها الحصرية». على سبيل المثال، يشير الفيلسوف الفرنسي ريمون آرون إلى أنه «لم يكن ممكنا أن تصمد العنصرية البغيضة إلى ما لا نهاية أمام الانفتاح على عظمة الحضارات الأخرى، أو التهافت البين في نظريات تفوق الرجل الأبيض». ويؤكد حميد دباشي، أستاذ الدراسات الإيرانية والأدب المقارن في جامعة كولومبيا، أن فكرة ’الحضارة الغربية‘ بالنسبة إلى الدول الأوربية كانت بمثابة «المظلة التي تؤكد الهوية العالمية للثقافات الوطنية الأوربية، ولتوحيد هذه الثقافات ضد النتائج الكارثية للكولونيالية». ويضيف: «وَسَم الاستشراق الحضارات الإسلامية والهندية والإفريقية باعتبارها حضارات مضادة للحضارة الغربية، ومن ثم فقد أعيد اختراع كل الحضارات غير الغربية باعتبارها تكوينات مناقضة للحضارة الغربية، وهو ما يمثل شكلاً من أشكال المصادقة والمصداقية لكل ما هو غربي». لقد قسم هيجل كل التاريخ الإنساني السابق إلى مراحل حضارية تقود جميعها في نهاية المطاف إلى الحضارة الغربية، بما يعني تقزيم التاريخ الإنساني بأكمله، ووضعه تحت مقصلة الدراسات الاستشراقية المتحيزة.

ريمون آرون                                        هيجل

*هذه المادة مترجمة من هنا ?

 

أحمد بركات

باحث و مترجم مصرى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock