رؤى

عبد الله بن المقفع: كيف وظّفت «الخلافة» الأموية والعباسية، الشريعة كسلاح للضبط السياسي

يبقى النموذج الأبرز لتشويه سيرة شخصية تاريخية هو نموذج ابن المقفع.. تلك الشخصية التي لا نعرف عنها إلا القصة الشهيرة حول أن الحجاج ضرب والده على يديه حتى تفقعتا فسُمي بهذا الأسم، ثم مات محروقا في الفرن. وبين ضرب الأب وحرقه تاريخ حافل لابن المقفع من المطالبة بحقوق الناس طُمِست وزهدت كتب التاريخ في تسطيرها.

عادة ما يصنف الكتاب الأشهر لابن المقفع باعتباره كتابا أدبيا نظرا لعنوانه «الأدب الصغير .. الأدب الكبير»، في حين أن التصنيف الأدق له أن يكون ضمن كتب ذلك الفرع من فروع التاريخ الإسلامي الذي عُرف بـ «الآداب السلطانية»، حيث يحذر فيه من صحبة السلطان ،وإن كان لابد من صحبته فبشروط، وفي ذلك يقول «ان الطالب لصحبة الملوك لا يُفلح حتى يشايعهم ويماثلهم» ونجد في كتابه وصايا تحذّر من منافقة ومداهنة السلطان.

روح ثورية

 فما لا نعرفه عن ابن صاحب اليد المتورمة، هو روحه الثورية ودعوته المبكرة لأن يقود المفكرون الدولة وأن تخضع الدولة لهم، ما يعني خضوع العملية الاجتماعية والسياسية للعقل، وهذا بالتأكيد ما يكرهه كل صاحب سلطة. كان عصر ابن المقفع هو النصف الأول من القرن الثاني الهجري، حيث عاصر نهاية الدولة الأموية وبداية الدولة العباسية، وهى الفترة التي شهدت تغير بنية الفكر العربي من الحالة الشفاهية إلى الحالة الكتابية، مما أدى إلى إطلاق سمة «عصر التدوين» على هذه الفترة التي عاش فيها ابن المقفع. في هذا العصر أطلع العرب على ثقافات جديدة متعددة أدت إلى إفراز مقولة «العقل» نتيجة تراكمات عاملين أساسيين:

أولهما «إجتماعيثقافي» ،إذ كان المجتمع العربي في القرن الأول للهجرة تشقه صراعات سياسية تحولت بحكم الحركة الحيوية للمجتمع إلى صراعات فكرية، ثم انتهت إلى صراع متجذر في بنية الثقافة بين سلطات مرجعية معرفية. فبعد أن هدأت الفتن واستقر الوضع لبني أمية ظهرت مسائل فكرية تتمحور حول قضية الخلافة، وضمن هذا الاطار حاولت الدولة المركزية إنشاء ايديولوجية رسمية فارتأت رفع مكانة الخليفة حتى مثّل «ظل الله في الأرض»، فهو خليفة الله في أرضه، اختاره وصيا على عباده، وهكذا كان يخطب زياد ابن أبيه في خطبته البتراء الشهيرة ويعلن على الملأ أنهم يحكمون بسلطان الله الذي أعطاهم، ويأمر الناس بأن عليهم الطاعة وعليه العدالة (العقد الفريد، ابن عبد ربه، ج 4 ص 110).

بين الطاعة والاختيار

هذه الصيغة التي أضفت «القداسة» على «الخلافة» والخليفة نتج عنها أيديولوجيا كاملة، وهي أيديولوجيا الطاعة، فقد تمكنت السلطة الرسمية آنذاك من خلق فرق تتبنى هذه الأيديولوجيا وتدعو لها تحت غطاء عقائدي، حيث مالت السلطة لمفهوم «الجبر» أى نفي القدرة على الفعل عن العبد، ورتبت على هذا الفهم أن وجود الخليفة محدد من الله، وبالتالي فالمسلم مجبر على قبوله ولا ينبغي له الاعتراض عليه. 

وفي المقابل بدأت تتشكل أيديولوجيا مناهضة للفكر الجبري، تقوم على مفهوم الاختيار أى إثبات قدرة العبد على اختيار الخير والاندفاع نحوه، والنفور من الشر والبعد عنه، وهذا هو مبرر حساب الله له في الآخرة. وقد اعتمدت هذه الحركة العقل في فهم العقيدة، وحمل روادها شعار الرفض جهرا، فكانت النتيجة تصادمهم مع السلطة، وقد ذهب كبار روادها ضحايا لأفكارهم مثل الجعد بن درهم وغيلان الدمشقي، إلا أن هذا لم يمنع من تحول خطاب العقل تدريجيا إلى تيار اجتماعي وثقافي.

 أما السبب الثاني لتغير بنية الفكر العربي الإسلامي في هذه الفترة التاريخية فهو سبب «جغرافي – سياسي»، ويمثله الخارج الثقافي، الذي تعرف عليه العرب بعد انتهاء الفتوحات واتساع رقعة الخلافة الإسلامية، وهو اتساع خلق وضعا جديدا أكثر انفتاحا وعقلانية بالنسبة للثقافة العربية، حيث استقرت مقولات العقل وتم تشكيلها بنيويا في خطابه، وأصبح العقل يمثل «الثابت البنيوي» المركزي في نصوصه، وبالتالي ظهر – لأول مرة – مفهوم الاستخدام الكلي للشريعة باعتبارها مجموع المبادئ الإسلامية العامة التي تتفق مع العقل الإنساني.

مفهوم الشريعة والتلاعب السياسي

 جاء ابن المقفع في لحظة فارقة في التاريخ الفكري والثقافي العربي الإسلامي، فعلى العكس من المفهوم الإلهي المنفتح «للشريعة» بدأ المفهوم يتجه نحو التشدد والانغلاق مع الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور، الذي أدرك القيمة الكبيرة لتوظيف الشريعة كسلاح للضبط السياسي للمحكومين في دولة الخلافة.

 وبينما أكد ابن المقفع على الدلالة التي وضعها القرآن للشريعة باعتبارها المبادئ الكلية العليا التي لا يختلف عليها أي دين، نشأ في المقابل اتجاه لاختزال مفهوم الشريعة في منظومة فقهية بعينها تقرها دولة الخلافة مع استبعاد أى منظومة فقهية مغايرة، وتم فصم عرى المفهوم عن الارتباط بكليات الدين التأسيسية الكبرى.

مع الوقت والممارسة السياسية أصبح المفهوم الجديد للشريعة أكثر إغراء بممارسة التلاعب السياسي بسبب ما ينطوي عليه من ممكنات تجعله الأكثر من غيره، حسما ومثالية في الفوز بمعركة السيطرة على المجتمع والدولة. فالمفهوم يتسع، من جهة لقواعد الضبط السياسي والاجتماعي، التي يمكن السيطرة بها على الناس، ثم انه يحمل، ومن جهة أخرى، ما يجعل من الممكن النظر إلى إجراءات وممارسات هذا الضبط على أنها ذات أصل إلهي – لا بشري. وهذا ما جعل من «الشريعة» المفهوم الأكثر جذبا للجماعات الدينية ذات المأرب السياسي طوال التاريخ، وحتى بالنسبة لجماعات الإسلام السياسي في حربها الراهنة من أجل السيطرة على المجتمع والدولة.

ومن هنا ظل ثأر الخلفاء من ابن المقفع متصلا، فقد قال الخليفة المهدي «ما وجدت كتاب زندقة إلا وأصله ابن المقفع». أما سبب هذا العداء فيرجع إلى دأب ابن المقفع على المطالبة بحقوق الناس، ومفاهيمه حول الدولة التي تقترب كثيرا من المفاهيم العصرية، حيث كان يرى أنه لابد من يكون للمفكرين والعلماء دروهم في حماية السلطة، وتعديل العلاقة بين الحاكم والمحكوم، بإزالة الصبغة اللاهوتية عن الحاكم. وفي ذلك يقول: «أحق الناس بالسلطان أهل المعرفة، وأحقهم بالتدبير العلماء، وأحقهم بالفضل أعودهم على الناس بفضله» وكان يدعو دائما إلى أن يصبح بين المفكرين رباطا قويا،  لهذا خصص غالبية أمواله لمساعدة العلماء حتى لا يضطروا إلى هجر العلم، فقد أراد أن يجعل من الأدباء مؤسسة موحدة متعاونة وفاعلة.

كان ابن المقفع سباقا في الاقتراب من أفكار يمكن النظر إليها كمبادئ للدولة الحديثة كما نعرفها اليوم، وربما كان ابن المقفع أول من ألمح إلى أهمية مبدأ العدالة القانونية في المجتمع الواحد، حيث انتقد صدور الأحكام وفق أربعة مذاهب في مجتمع  بغداد، الأمر الذي أدى إلى تناقضات في الأحكام، ويمكن أن يفهم من ذلك أن ابن المقفع يدعو إلى التعامل مع المذاهب بهدف صياغة قوانين يتفق عليها في كل دولة.

ومن ذلك أيضا اهتمام ابن المقفع بمبدأ «عدم العقاب على التهمة» وأن «المتهم برئ حتى تثبت إدانته»، وهو ما يفسر حرصه على  اضافة باب باسم (باب الفحص في أمر دمنة) وفيه نقرأ قصتين يشير مضمونهما لشناعة أن يعاقب السلطان على الظن، فإن الدم عظيم ومغبة هذا الأمر أن الأبرياء يدانون في حين البطانة الفاسدة التي اقترفت الجريمة تنال التكريم.

وقد بدا لابن المقفع أن حلمه بالدولة التي يطمح لها قريب للتحقق، خاصة أن أبا جعفرالمنصور مّثل نمطا جديدا من الخلفاء من ناحية حرصه على المال العام، كما أن الشعوب الأخرى والأقليات أصبح لها دور متزايد في الدولة في عصره. إلا أن ابن المقفع فوجئ بحلمه يتهاوى خاصة في أمر علاقة المثقف بسلطة الخليفة، فتبين له أن المثقف لن يتاح له أن يكون موجها بل خادما له و انتهى ابن المقفع ذاته باتهامه دون تثبت بإدخال الفساد على التقاليد الإسلامية لأنه ترجم كتاب المنطق لأرسطو وروج لأفكار فلاسفة مسلمين كالفارابي وابن سينا وابن رشد، كما اتهم – دون دليل – باعتناقه للعقيدة «المانوية» أو «الثنوية» وهى عقيدة ظهرت في بلاد فارس تعتقد بوجود بدايتين للكون: النور والظلام، وأنه يخفي الزندقة، واختصرت صورة ابن المقفع في هذه الشائعات وعجز المؤرخون عن رؤية مشروعه الفكري ورؤيته العملية في الإصلاح ومواجهة الفساد.

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock