رؤى

النفس وأحوالها.. إطلالة فلسفية صوفية على تلك الطاقة التى تسكننا

نفس الشىء في اللغة وجوده، والنفس هي تلك الطاقة الروحية التي تسكن الجسد فتفجر فيه طاقات الرغبة والإرادة، هي إذن مصدر للطاقة وللحيوية، وبذلك تحمل معنى إيجابياً باعتبارها مصدر الفاعلية ومناط تحويل الكيان الإنساني من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل، فهي إذا مناط الوجود.

قوة روحية

النفس عند الفلاسفة هى ذلك المكون المقابل للجسد في تبادلية للأدوار بحيث تكون المسئولة عن نشاطه وحركاته، ويستخدم الفلاسفة كلمة (النفس) للتعبير عن تلك القوى الروحية التي تتحد بالجسد فتحركه.. إما إلى طريق الفضيلة في حال غلبت القوة العاقلة فيها، أو إلى الشر والرذيلة في حال غلبت عليها الشهوة وقواها الحيوانية. فالفلاسفة يتعاملون معها باعتبارها كتلة روحية واحدة في مقابل الجسد، تندرج تحتها مجموعة من القوى التي يتصف بعضها بالسلبي والآخر بالإيجابي.

وللنفس عند المتصوفة المسلمين مفهوم آخر، فإذا كان الفلاسفة  قد قدموا محاولاتهم في فهم الطبيعة البشرية استنادا إلى العقل والتأمل، فإن المتصوفة المسلمين يقدمون مفاهيمهم في الطبيعة البشرية وفقا لنوع من المعرفة الغيبية الإشراقية التي يتلقونها عن الخالق مباشرة، على نحو يجعل الصوفي الشهير الحكيم الترمذي يقدم رسالته في (بيان الفرق بين الصدر والقلب والفؤاد واللب)، ويمتاز المتصوفة بالقدرة على تقديم وصف حيوي مادي للقوى الروحية –بما في ذلك النفس- من جسم الإنسان، بحيث نجد بعضهم يٌعين موضع النفس ومسكنها من الجسد بحيث يكون موضعها (الكبد) أو (الطحال) في بعض الروايات دون غيرهما من أعضاء الجسد.

 وليس المراد من إطلاق لفظ النفس عند الصوفية الوجود كما عند الفلاسفة، وإنما أرادوا بالنفس ماكان معلولا من أوصاف العبد.. مذموما من أخلاقه وأفعاله. فشهوات الجوارح من النفس، والكبر، والغضب، والحقد، والحسد، وسوء الخلق، وقلة الاحتمال من أعمالها، ومعالجة الأخلاق في ترك النفس، وكسر النفس إنما يتم بمقاساة الجوع والعطش والسهر وحجبها عما ترغب ومنعها مما تحب.

وقد تدخل النفس باعتبارها مصدر الشهوات والرغبات المذمومة في صراع مع قوى أخرى ايجابية في الجسد مثل القلب، فللنفس جنودها وللقلب جنوده، يقول صاحب الحكم العطائية (النور جند القلب، كما أن الظلمة جند النفس، فإذا أراد االله أن ينصر عبده – أمده بجنود الأنوار، وقطع عنه مدد الظلم والأغيار).

أطوار النفس

وللنفس ستة أطوار: الأمارة، واللوامة، والمطمئنة، والراضية، والمرضية، والكاملة، وهي جميعا مذمومة حتى تلك التي جاء فيها الوصف القرآني (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةَ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً)، فقد ورد فيها قول أحد كبار الصوفية المعاصرين (والمطمئنة في عظيم فضولها هي فتنة تمشي على استحياء)، فرغم ما يقره لها من فضل النجاة إلا أنها ما تزال فتنة، لان وجود النفس أيا كان حالها يجعل الإنسان في حالة إثبات وكينونة للذات في مواجهة الخالق، بينما مرادهم هو الفناء في هوى المحبوب.

وتتخذ نفس الإنسان من الإتهام والكراهية عند المتصوفة حد تشبيهها بالكلب الذي يخطىء الإنسان في تسمينه وإطعامه فإذا به يأكله بحسب ما ورد في توصيف الجيلاني. يقول الشيخ عبدالقادر الجيلاني «لا تسمّنوا أنفسكم فإنها تأكلكم كمن يأخذ كلبا ضاريا فيربيه ويسمنه ويخلو معه فلا ريب يأكله، لا تطلقوا أعنة النفوس وتحدوا سكاكينها، فإنها ترمي بكم في أودية الهلاك وتخدعكم، اقطعوا موادها ولا تطلقوها في شهواتها».

وللنفس مجاهدة، يقول أستاذ القشيري أبا علي الدقاق «من زين ظاهره بالمجاهدة حسًن الله سرائره بالمشاهدة»، ويقول أيضا «وأعلم أن من لم يكن في بدايته صاحب مجاهدة. لم يجد من هذه الطريقة شمة».

 أما السري السقطي فيشير إلى جهاد النفس بمعان متنوعة كالدعوة للمكابدة والجد فيقول «يا معشر الشباب جدوا قبل أن تبلغوا مبلغي فتضعفوا وتقصروا كما ضعفت وقصرت».. ويحذر من مرافقة أهل السوء لأن في الاقتراب منهم هوى للنفس، وفسحة للشيطان فيقول:

«إياكم وجيران الأغنياء، وقراء الأسواق، وعلماء الأمراء»

السري السقطي

وروي عن الحسن القزاز قوله «بني هذا الأمر (يعني التصوف) على ثلاثة أشياء…. أن لا تأكل إلا عند الفاقة، ولا تنام إلا عند الغلبة، ولا تتكلم إلا عند الضرورة».. وروي عن أبي الحسين النوري قوله (التصوف ترك كل حظ النفس). كما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنهم رأوه يوطىء شيئا يفترشه

فقيل له. ما هذا؟

قال: نفسي إن لم أحسن إليها لم تحملني.

وقال بعض الصالحين «اعمل على فطام نفسك. فإن من فطم نفسه عن الدنيا. كان رضاعه من الآخرة»

وقال آخرون «قد علمت أن من صلاح نفسي. علمي بفسادها»

وروي عن أبى عمرو بن نجيد قوله (من كرمت عليه نفسه. هان عليه دينه)

ويقول الإمام جعفر الصادق (المجاهدة بذل النفس في رضاء الحق).. بينما يقول القشيري (وأعلم أن أصل المجاهدة وملاكها. فطم النفس عن المألوفات، وحملها على خلاف هواها في عموم الأوقات).. وقال «حظوظ القلب باطنة، وحظوظ النفس ظاهرة، فإذا منعت النفس حظوظها انفتحت أبواب حظوظ القلب، فإذا استغنى القلب بحظوظه من الحق عز وجل. جاءت الرحمة للنفس تأتيها حظوظها فتتاولها وهي مطمئنة».

والهوى من صفات النفس. يقول الهجويري (الهوى حجاب الواصلين، ومركب المريدين، ومحل إعراض الطالبين، فمن ركبها هلك، ومن خالفها ملك.. وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى. فإن الجنة هي المأوى)

وقد ذهب ميمون بن مهران إلى أنه «لا يكون العبد تقياً حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من الشريك لشريكه، ولهذا قيل: النفس كالشريك الخوان، إن لم تحاسبه ذهب بمالك»

ويقع الإنسان في حيرة ما بين استقبال تلك المعانى الراقية في مواجهة النفس وتهذيبها بحرمانها، وما بين إثبات ذاته وتحقيقها بالسعي لإشباع رغباته وإنجاز أحلامه بما يفيد نفسه ويفيد المجتمع من حوله. يبدو التضاد واضحا. أيهما (جوهر الإسلام)؟ وحقيقة التكليف؟ ورربما يكون ذلك ما يجعل البعض يؤكد على خصوصية التجربة الصوفية التي لا تصلح للتعميم.

بلال مؤمن

كاتب و محرر مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock