ثقافة

الخطايا الخمس التى تلاحق حرية الإبداع في بلادنا

 في كتابه الشَّيِّق «بحار الحب عند الصوفية» يقول الأستاذ الكبير أحمد بهجت: لو عاملنا الشعراء المتصوِّفة على أنهم رجال دين كتبوا الشعر فهم مدانون لا محالة (لأنهم مغايرون)، ولو كانت المعاملة قِوَامُها أنهم شعراء أحرار كتبوا شعرهم بطريقة لَمَسَت الدين؛ فالأمر سيؤول إلى سلام، والإدانة لن تكون مصيرهم أبدا.

ما  قاله الكاتب الراحل (يرحمه الله) يمثّل الوجهة المتعقّلة الرشيدة ويجب اعتماده على الدوام عند التفاعل مع النصوص التي تتعرض للتابوهات أو المحرمات، كالدين والجنس والسياسة. لقد طال الحديث في موضوع حرية الإبداع ومع ذلك لم نصل إلى اتفاق بشأنها ولم نضع لها قاعدة عامة ولا تعريفا جامعا محكما.

عيون تتربص

ظل الشعراء والأدباء يبدعون وينشرون إبداعاتهم في وسائل النشر الورقية والإلكترونية المتعددة، وظلت الأعين المتربّصة بالإبداع تتابع ما تنشره هذه الوسائل، وما يروقها منه تثني عليه وما لا يروقها تطعن فيه وتشهّر بأصحابه وترفع عليهم القضايا نيابة عن الجماهير »قضايا الحسبة» متصورة أنها هكذا تحمي المجتمع، وتصون الحياء من الخدش، وتنبه لخطر الكلمة التي تراها، من وجهة نظرها الخاصة القاصرة، شرًّا يناقض الخير وقبحا يهدد الجمال وباطلا يناطح الحق.

طوال التاريخ تعرَّض مبدعون كثيرون، لقهر الحبس وعار السمعة السيئة وضنك الفصل من الوظائف، نتيجة لتلك النظرة المتسلّطة التي تعبر في الحقيقة عن اضمحلال وعي أصحابها لا عُلُوّ أدبهم، مع أن مساحة الحريات المتاحة لجميع المبدعين في الحقيقة لا تكفي مبدعا واحدا، كما كان الشاعر العربي الفذُّ الراحل نزار قبَّاني يردّد دائما بحسرة.

في النهاية من حقِّ قارئ الشعر والأدب أن تلفظ ذائقته منهما ما تلفظه، أمَّا أن يقرأ قارئٌ قصيدةً يقلقه موضوعُها أو قصَّةً تستفزُّه ألفاظها؛ فيكون التصرف الوحيد حيال ذلك هو الذهاب إلى المحكمة للشكوى، فهذا هو الفعل المستهجن، وغاية ما يمكن أن يفعله من يرفض شعرا مختلفا عن النسق المعتاد أو أدبا جريئا هو تنحية العمل المرفوض ونسيانه والالتفات إلى غيره، أو الكتابة (الموضوعية) الكاشفة لأبعاده، لو كان يملك ناصيتها طبعا، تاركا الحكم القطعي لأذواق المتلقِّين بعيدا عن مكاتب التحقيقات وساحات المحاكم.

المعرفة الواجبة هنا أن الكتابة الإبداعية «كتابة مجازية وتخيُّليَّة جامحة».. وبعد هذا التعريف السَّديد النافع لا يصح أن نحاكم إبداعا بأداة سوى النقد «فن تمييز جيِّد الكلام من رديئه، وصحيحه من فاسده».. لكن ليت القضية بهذه السهولة؛ فخلف المحاكمة للإبداع ما خلفها من ركاكة التعليم، وفوضى الشارع، وخلفها ما خلفها من التشدد الديني والأخلاقي، والنفاق السياسي المقيت.

الخطايا الخمس

أولا: لكي يسلم الإبداع الحرُّ وذووه من غمز الفارغين ولمزهم وربما قسوة الحكم المادي والمعنوي عليه؛ ينبغي أن نسارع بإصلاح التعليم، أن نجعل إصلاحه مشروعنا الدائم، أعني أن نتولاه بالتغيير الذي يحقِّق تطويرا وتجديدا على فترات متتابعة يمكننا تحديد مسافاتها الزمنية بحسب حاجاتنا ومتطلباتنا ومجريات الأحداث من حولنا، وألا نبخل عليه بكل ما يدعم توجهاته العلمية والتقدمية. إنَّ التعليم الممتاز هو الطريق الواضح إلى التفكير السليم والتذوق المستقيم، هو الرُّقيُّ البشري، ومن قال كلاما خلاف هذا فقد لغا في قوله.

ثانيا: تعكس فوضى الشارع، فوضى الذين يمرون به ويقيمون فيه.. وبالبداهة لو لم يكن هؤلاء جميعهم يؤثرون الاختلال لما غرق الشارع في فوضاه. المسألة سلوكية لا ريب، ويبدو الجميع مضطربين سلوكيا، ومخطئ من يظن أن هذه الحالة البائسة لا تتصل بحرية الإبداع في الصميم؛ فالشارع، في صورته المزدحمة المتعاركة التي يحرص كل فرد فيها على السيادة، هو عموم الناس باختلافهم وتنوعهم، وهم المقصودون بالكتابة في جميع الأحوال، وما داموا قاصرين عن أن يحافظوا على نظام الشارع الذي يبدأ وينتهي باحترام كل منهم للآخر فهم أشد قصورا في الحفاظ على حرية الإبداع واستقلالية المبدعين.

ثالثا: حين ابتليت البلاد بتيارات التشدد الديني؛ أصيب عقلها بالتَّخلُّف وتشوَّش وجدانها، فلم يبق غير الجمود ولم يعد الصفاء موجودا، وصار الأقرب هو الإيمان المطلق بالنمط الواحد الذي يرى نفسه ممثِّلا لله في الأرض؛ فلا يعترف بالآخرين، بل يرى الفكر كفرا ويهدِّد المفكِّرين، ويشوِّههم، ويدَّعي أنهم أعداء السماء وكتبها ورسلها وأوامرها، ويبدو أكثر ما يخيفه صورُ الكلام الفنية بالغة الأثر في الأذهان والنفوس؛ فيركّز فيها العداوة، وقد يتجه إلى تصفية الموهوبين، ولا يبالي بحرمة الحياة.

رابعا: كأمثال المتشددين الدينيين من يبالغون في حديث الأخلاق، سواء كانوا أفرادا عاديِّين أو مثقفين محسوبين على تيارات معيَّنة؛ لأنَّ في العادات والتقاليد وفي موروثاتنا الشعبية، كما في الفقه الديني بالضبط، كثيراً ممَّا قد يدفع الناس دفعا إلى تقييم الأشياء تقييما أخلاقيا بحتا، وهو الخطأ الفادح، وعلى رأس ذلك تقييم الإبداع.

خامسا: السياسة من الموضوعات الأثيرة لدى الشعراء والأدباء؛ فليس أغنى من عالمها بالتناقضات، كأنها المادة الخام التي تنادي بالأقلام وتحثُّها على الصَّرير، وقد يسيح مقال في مقام السياسة سياحة فاضحة وقد تتزيد رواية تزيدا مهينا.. ههنا بالضبط يتدخل الذين نسميهم «ملكيون أكثر من الملك».. يتدخلون تدخلا لا يمتُّ إلى فهم الكتابة الفنية بصلة؛ فيحملون أوراق المبدعين كما لو كانت دليل إدانة ويتوجهون بها إلى جهات التقاضي بشكل مباشر وسط إعلان واسع عن ذلك الذي يظنونه وطنية وانتماء.. لا يفعل هؤلاء الأوغاد شيئا أبعد من نفاق السياسيين وشراء رضاهم طبعا، وقد ينجحون، وقد يفاجئهم مسئول سياسي واع برفضه لما يقومون به؛ فيسحبون القضايا فورا، وساعتها يظهر للعوام قبل الخواص مدى تدنِّيهم، لكن لا يتوبون، بل يحاولون صيد المنافع دواليك، ولديهم مكتبات عامرة، لا يقرؤون كتبها، لكن يفتِّشون فيها عن الخطايا الموهومة، بلا أدنى ضمير.

 

عبد الرحيم طايع

شاعر وكاتب مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock