منوعات

الصوفية المجاهدة (2): عبد القادر الجزائرى.. أمير الغرب وجلّاد الفرنسيس

على الرغم من نشأته النبيلة، حيث ينتمي لواحدة من أعرق الأسر الجزائرية وأعظمها شأناً، والتي تمثلت في كثير من مظاهر حياته كحبه لرياضة الصيد والقنص في الغابات، أو شغفه – كعادة نبلاء عصره – بتزيين سلاحه إن بالفضة أو بالجواهر، إلا أن حياته كانت ممتلئة بالقيمة واضحة الهدف، الذي دفع إليه الظرف التاريخي الذي عاشه  وطنه الجزائر وأمته الإسلامية.

نبوغ مبكر

في يوم الجمعة الموافق الثالث والعشرين من رجب 1122 ه، (1807م) ولد الأمير عبدالقادر الجزائري بقرية القيطنة/ جنوب شرق وهران، في أسرة ذات جاه ونفوذ، وتقوى وصلاح، فكان والده الشيخ محيي الدين من حماة الشريعة، وكبار أوليائها ويُلقب بالشريف لعودة نسبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فهو شيخ الطريقة القادرية، وأحد أولياء الله المنافحين عن الشريعة التي جلس يُدرّسها ويُعلّمها في زاوية خاصة يستقبل فيها طلاب العلم – ليوضح حكمتها  ويكشف أسرارها، وقد أولى الأب عناية خاصة للابن عبدالقادر في تعليمه وتثقيفه حتى ظهر نبوغه مبكرا فأجاد القراءة والكتابة في الخامسة من عمره، وأتم حفظ القرآن بأحكامه وفنون تلاوته في الرابعة عشر، وهي السن التي ارتحل فيها إلى وهران لدراسة علوم الشريعة والفقه بالإضافة إلى علوم الرياضة والجغرافيا والتاريخ، وطالع كتابات المفكرين والفلاسفة المحدثين.

 بعد عامين عاد الأمير الشاب ليُلقي دروس التفسير في جامع الأسرة، غير أن اهتماماً واضحاً بالفروسية وفنون القتال والقنص  ملأ عليه حياته، ففي السابعة عشرة من عمره اشتهر بشدة البأس، وتميز عن أقرانه في ركوب الخيل حتى وصف بأنه «خير من قبض على عنان في أرض الجزائر».

رحلة مشرقية

ويبدو أن تلك المكانة والشهرة قد أقلقت حكم الأتراك المتهاوي من الأمير الشاب ففرض الداي (الحاكم العثماني) عليه وعلى والده إقامة جبرية قضاها – كعادة المتصوفة- في خلوة وعبادة أتاحتا له مزيداً من الوقت للمطالعة وتحصيل العلوم والمعارف، وبعد مدة من الوقت سُمح للأب وابنه  بالذهاب لرحلة الحج، وهي الرحلة التي استغرقت نحو عامين قضاهما  عبد القادر الجزائرى متنقلا بين مكة والمدينة ودمشق والقاهرة وبغداد، وفي هذه المدن العربية الكبيرة التقى بالعديد من علماء وأولياء المسجد الأموي في دمشق والأزهر الشريف فى القاهرة وأخذ عنهم، ففي دمشق ارتدى خرقة الطريقة النقشبندية عن العارف بالله الشيخ خالد النقشبندي السهروردي، وفي بغداد ارتدى خرقة الطريقة القادرية على يد خليفة شيخ بغداد ووليها الأكبر عبدالقادر الجيلاني فتعلم منهما علوم التوحيد والتصوف وغاص في حقائق الغيب، ونال أنوار المشاهدة وحصّل ثمار المجاهدة، وارتبط فؤاده بدمشق حيث سيكون مثواه الأخير.

كانت أهمية تلك الرحلة المشرقية للأمير الشاب في تعرفه على الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في المجتمعات العربية مما دفعه للتفكير فى أسباب الخلاص مما يعانيه بنو العرب من وصاية واحتلال وفقر، كما تحصل خلالها على عدد ضخم من المؤلفات التي كون بها مكتبته فعرف رسائل إخوان الصفا، ومؤلفات أرسطو وأفلاطون، وفوق ذلك كله مؤلفات الشيخ الأكبر محي الدين ابن عربي حيث ستطوف الفتوحات المكية بروح الأمير الشاب في عالم الخلاص، غير أنه لم يغادر الأرض التي يسكنها ويعمرها لا عقلا ولا جسدا

ملحمة كفاح ضد الفرنسيين

قفل عبد القادر الجزائرى  عائدا من رحلته المشرقية إلى وطنه الجزائر الذي يحكمه دايات عثمانيون، كان آخرهم «حسين باشا” الذي جرت بينه وبين أحد الدبلوماسيين الفرنسيين مشادة انتهت بضربه بمروحته في وجهه، واتخذتها فرنسا ذريعة لاحتلال الجزائر باعتبارها إهانة لعرش الملك، وأرسلت  أسطولا من أربعين ألف جندي وحين يأس الجزائريون من نجدة العثمانيين، وبان لهم عجز جارهم سلطان المغرب الأقصى الذي توعدته فرنسا بالعداوة، لجأوا إلى الأمير الشاب ووالده ليقودا حملات جهادهم ضد المستعمر الفرنسي، وقد أجابهم عبد القادر الجزائري بقول واحد “أنا لها. أنا لها»… كان الأمير يقاتل الفرنسيين بمكان يدعي حصن فيليب، وبعد موافقته عقدت له البيعة تحت شجرة الدردرة الموجودة بوادي فروحة، ووقف والده الأمير محي الدين مخاطبا المجاهدين بقوله:

 «إليكم سلطانكم الذي أشارت إليه نبوءات الأولياء والهامات الأتقياء. هذا هو ابن الزهراء، فأطيعوه كما أطعتموني واجتنبوا جفاءه، نصر الله السلطان نصرا عزيزا مقتدرا» وحرر صك البيعة ليُرسَل إلى مختلف أرض الجزائر التي توالت وفودها مبايعة ومناصرة ومؤازرة للجهاد، وقد بدأ الأمير جهاده المقدس فألف بين الصفوف، وآخى بين المتنازعين ثم واجه الفرنسيين في العديد من المعارك لاسيما في مدينتىْ «وهران» و«مستغانم» وحقق انتصارات كبيرة عليهم، مما اضطر الفرنسيين إلى عقد هدنة معه عام 1834م، استغلها الأمير في إنشاء دولة حديثة مستلهما تجربة محمد علي في مصر بإنشاء ترسانات حربية ومعامل لتصنيع البارود والبنادق، ومصنع للمدافع بتلمسان، وشيد الحصون وكون جيشا من المشاة والمدفعية، واستقدم الخبراء الأجانب لتدريب جنوده. واتسعت رقعة ملكه فكون دولة من ثمانى مقاطعات تندرج تحتها دوائر وقبائل وعشائر.

نجح الأمير الزاهد المتقشف الذي سكن الخيام،وجلس على مقعد خشبي كذلك الذي يستعمله الباعة في الطرقات، وأكل من أبسط الطعام، في لم شمل القبائل التي انتشرت بينها العصبية والمنازعات،وحين نقض الفرنسيون الهدنة واجههم الجزائرى مواجهة علموا أن لا قبل لهم بها، فطالبوا بعقد هدنة مجددة في عام 1837م.

كان للأمير شغف خاص بالقراءة والكتب، وقد أصدر من القوانين ما يُحرّم العبث بالكتب أو حرقها، وقد علم جنوده شغفه بها فصاروا يجمعون له كل ما يقع تحت أيديهم من مؤلفات، ولم يتوقف الأمر عند شغف القراءة وإنما وضع الأمير المجاهد أول رسائله بعنوان «وشاح الكتائب وزينة الجيش المحمدي الغالب» وهي رسالة في فنون الحرب، تتضمن شرحاً للأنظمة العسكرية القائمة، والقوانين التي وضعها الأمير لجنده ومجاهديه.

بعد سنوات من الهزيمة والخزي، وفي عام 1839 قرر الفرنسيون التوجه لسياسة الاحتلال الشامل، ونجحوا في هزيمة سلاطين المغرب العربي، وفرضوا عليهم تسليم الأمير عبدالقادر وسيّروا الجيوش لمقاتلته، فوجد الأمير نفسه بين ناري التضحية برفاقه وجيشه بين فكي الغزاة والحكام الخانعين، أو تسليم نفسه وحقن دماء رفاقه فكان الخيار الثاني، وبعد سبعة عشرة عاما من الجهاد المتواصل أضطر الأمير لأن يضع سيفه وأن يسلم نفسه للفرنسيين، حيث قبع أسيراً في سجونهم محروما من العودة لوطنه في نقض صريح لمعاهدتهم معه، إلى أن سُمح له بالرحيل إلى دمشق التي قضى بها سنوات عمره التالية قارئا وباحثا ومتأملا، ومجاوراً لمقام الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي، وألف كتابه «المواقف» والذي يعد أهم أسفاره الصوفية. وبذلك ضرب الأمير عبدالقادر الجزائرى أروع الأمثلة للصوفية المجاهدة التي أعادت إلى الأذهان نماذج الشيخ العز بن عبدالسلام، والإمام أحمد البدوي وغيرهما ممن قادوا الجيوش في مواجهة الغزاة.

بلال مؤمن

كاتب و محرر مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock