رؤى

تجديد الخطاب الديني.. قضايا وإشكالات (1)

حازت قضية (تجديد الخطاب الديني) خلال السنوات الأخيرة اهتماما بالغا إعلاميا وثقافيا، على نحو يجعلها على رأس أولويات مؤسسات الدولة الدينية والثقافية، وتبدو كما لو أنها شرط وحيد وأصيل للنهوض المتعثر.

وربما تعود أهمية هذه القضية ومحوريتها، إلى ما يمثله الفكر الديني من مكانة وحضور طاغ في حياتنا اليومية، وبشكل معيق أحيانا لحركة التقدم والنهوض، فأحد مظاهر التردي الثقافي بلاشك، أنه كلما تعثر الواقع، وضاقت الحياة حضر الدين ومعه التطلع للحياة الآخروية وجنات الخلد.

اقرأ أيضا:

أسئلة التجديد العديدة

 كما لا يخالجنا شك في كون التطرف وجماعات العنف الديني، واحدة من الأسباب الأكثر حيوية وفاعلية في تحريك الجهود لاكتشاف عوار ذلك المخزون الديني والثقافي الذي يفرز لنا متدينين ،هم في واقع الأمر أقرب ما يكونون إلى قنابل موقوتة، ورسلا للموت يحيطون بنا في كل مكان.

ورغم ذلك فلايزال السؤال مطروحا حول المقصود بالتجديد الديني؟ وما هي أهدافه؟ وهل ينصب التجديد على الخطاب أم الفكر الديني أم كلاهما؟ ومن هم المعنيون بواجب التجديد؟ وهل ثمة شروط تأهيلية لمن يضطلعون بواجب التجديد؟، وما هو الفارق بين الاجتهاد والتجديد؟، وهل يتعلق التجديد بالدين الإسلامي حصرا، أم يتعداه إلى الفكر الديني المسيحي أيضا؟

هذه الأسئلة كانت محور إحدى الجلسات النقاشية المهمة التي عقدت بحضور نخبة متميزة من الباحثين، وذلك ضمن فعاليات المؤتمر السنوي لمؤسسة الفكر العربي، الذي عقد في القاهرة مؤخرا تحت عنوان (نحو إنسان عربي جديد).

في محاولة للإجابة على بعض هذه الأسئلة قدم الباحث الدكتور محمد حلمي عبدالوهاب خلال الجلسة ورقة بحثية حملت عنوان (فوضى التجديد)، تناول فيها مفهوم التجديد لغة واصطلاحا – في علاقته بغيره من المفاهيم كالاجتهاد، بالإضافة إلى استعراض بعض المحاولات التجديدية المعاصرة، التي بدت كأنما تستهدف التخلص من الدين ذاته، وليس محاولة تقويم أو تصحيح الفكر الديني بما يتفق مع المقاصد الكلية للدين والشريعة الإسلامية.

نوعان من التجديد

في أطروحته تساءل حلمي عن مفهوم التجديد؟ وعما إذا كانت أولى خطواته هي قتل القديم فهما – على حد تعبير الشيخ  أمين الخولي؟، أم إذا كان إحياء السنة وإماتة البدعة – بحسب بعض الأصوليين، والتجديد لغة مشتق من الفعل(جدًد).. يقال تجدد الشىء صار جديدا، ويستعمل بمعنى الإعاده، مثل تجديد الوضوء أي إعادته، وقد استعملت في القرآن الكريم بمعنى البعث والإحياء والإعادة على خلاف السنة التي وردت فيها البشارة (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة عام من يجدد لها دينها.

 كما قارن حلمي بين نمطين من التجديد مورس أولهما من قبل العلماء الأصوليين منذ القرن التاسع عشر كالطهطاوي ومحمد عبده وهو (تجديد من الداخل)، وبين لون آخر من التجديد يمارسه الحداثيون العرب المعاصرين وهو تجديد من (الخارج)، وفي حين يثني حلمي على جهود التيار الأول من الإصلاحيين الذين ميزوا بين نمطين من الإسلام أحدهما معياري نموذجي مطلق يستلهم نموذج الإسلام في الزمن النبوي مرتكزا على النصوص المؤسسة متمثلة في  (القرآن والسنة)، وآخر واقعي نسبي خاضع للأهواء، ويعتبرون الأول هو النموذج الصحيح للدين.

اما التيار الثاني وهو نموذج التجديد من الخارج (خارج دائرة علماء الدين) وتمثله بعض المشاريع الثقافية الحداثية مثل عبدالمجيد الشرفي، ومحمد أركون، ومحمد شحرور، فإن أزمته من وجهة نظر محمد حلمي عبد الوهاب تتمثل في إرتكاز  تلك المشروعات على مناقشة (إشكالية المصدر للنص المؤسس المتمثل في القرآن الكريم)، «في الوقت الذي يفتقد فيه هؤلاء الباحثين للحد الأدني من الأدوات المنهجية والعلمية كعلوم اللغة وعلوم القرآن وما ينبثق عنهما».

وقد قدّم حلمي في ورقته بعضا من النماذج التي قال إنها تكشف التهافت العلمي لهذه المحاولات التي تضر بالهدف من دعوات التجديد أكثر مما تفيد. في هذا السياق أستعرض حلمي عددا من النماذج التي يرى تكشف عوار بعض المحالاوت التي تبنى على معرفة سطحية بالتراث الإسلامي، مثل الندوة  التي أقيمت ببيت الحكمة في العاصمة التونسية في الخامس من يوليو عام 2017 حول كتاب (المصحف وقراءاته) الذي ألفه مجموعة من الباحثين تحت إشراف عبدالمجيد الشرفي، وتلميذيه نادر الحمامي، ونائلة السيليني. ففي سياق التشكيك في سلامة النص القرآني من التحريف قال الحمامي: «لقد أخطأ النسَّاخ في كتابة الآية الكريمة: ‏‏إِنَّ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ‏.[‏طه‏: ‏63] وإن كثيرا من القراء قرؤوا: «إنَّ هذين»؛ لأن «إِنَّ هَذَانِ» خطأ مخالف لقواعد النحو». وفي هذا الصدد  اعتبر حلمي ان ذلك يدل على جهل شديد بما قيل في أمّهات كتب النحو حول هذه الـمسألة؛ كـ شرح ابن عُقيل على ألفية ابن مالك، وشرح الأشموني، وما جاء في مُغْنِي اللبيب، وقطر الندى وبل الصدى وغيرها من كتب النحو القديمة التي ذكرت أنَّ من القبائل العربية من كان يُلزم الـمثنَّى والأسماءَ الـخمسةَ حالةً واحدةً؛ وهي البناءُ على الألف ويُقدِّر حركات الإعراب على الألف، فيقولون: جاء الرجلان، فاعل مرفوع بالضمة الـمُقدَّرة على الألف منعَ من ظهورها التعذُّر، ويقولون: رأيت الرجلان؛ مفعول به منصوب بالفتحة الـمُقدَّرة على الألف منع من ظهورها التَّعذُّر، ويقولون: مررت بالرجلان؛ مجرور وعلامة جرّه الكسرة الـمقدَّرة تحت الألف منع من ظهورها التعذُّر. كما يقولون في الأسماء الـخمسة أيضًا: جاء أباك، ورأيت أباك، ومررت بأباك؛ ويُقدِّرون الـحركات على الألف كما يُقدِّرونها في الـمثنَّى. ومن قبيل ذلك القول الشَّهير: «مُكْرَه أخاكَ لا بطل»، وعلى اللغة الـمشهورة يجب أن يُقال: مُكْرَهٌ أخوك.

وفي السياق ذاته ذكر الـحمامي أيضا إنهم اعتمدوا في عملهم هذا على رواية حفص، وحفص أصلا يقرأ هذه الآية بتسكين النون لا بتشديدها ‏‏إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ؛ وتسمَّى عند النحاة: إنْ الـمُخفَّفة من الثقيلة فهي ليست عاملة، ويبقى الاسم الذي بعدها مبتدأ مرفوعًا؛ وهذا يعني أنَّ هذه الإشكالية غير مطروحة أصلا في الرواية التي اعتمدوها بحسب ما يقول. وهو ما اعتبره الدكتور حلمي عبد الوهاب «مجرد نموذج واحد للتسطيح الشديد المتمترس خلف جدار الأدلجة باسم الحداثة والتجديد»

الغرض من مثل تلك المحاولات – كما يقول حلمي عبد الوهاب- لا يبدو تجديد وإصلاح الفكر الديني، «وإنما زعزعة الاستقرار العقدي في ألوهية مصدر القرآن الكريم، والطعن والتشكيك فيما مر به من مراحل نزول وجمع و تدوين» ومعتبرا هؤلاء الباحثين يفتقرون لآليات وأدوات البحث العلمي الرصين في العلوم الإسلامية المختلفة، مستندا إلى ما سبق وانتهي إليه الباحث والمفكر التونسي محمد الطالبي – أستاذ عبد المجيد الشرفي- الذي يحلو له تسمية هذا التيار بـ«الانسلاخسلامية».

جدل وسجال

 هذه الأراء والأفكار التي عبر عنها حلمي عبد الوهاب في ورقته أثارت الكثير من الجدل بين حضور الجلسة والمشاركين فيها. فقد علق الدكتور محمد المعزوز، وهو أستاذ باحث مغربي في الأنتروبولوجيا السياسية، بالتأكيد على ما ذهب إليه حلمي، ومضيفا عدد من النماذج التي تؤكد افتقار بعض المجترئين على البحث في الإسلاميات للحد الأدني من علوم اللغة، كالنحو والصرف والبلاغة.

كما أثنى الباحث الكبير نبيل عبدالفتاح على أطروحة حلمي، مؤكدا عدم غائية الكثير من المشروعات الحداثية المطروحة على ساحة الثقافة العربية ضاربا المثل بمشروعات الجزائري محمد أركون، و السوري محمد شحرور التي قال إنها مشروعات «جعلت من الهدم والتفكيك أساسا لعملها لكنها لم تقدم في المقابل بديلا مقترحا للثقافة العربيةوالإسلامية السائدة».

 في المقابل أبدى الدكتور وحيد عبدالمجيد مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، اعتراضه على جاء في ورقة حلمي عبد الوهب من انتقادات بشأن بعض المشروعات الخاصة بتجديد الفكر الديني، معتبرا رؤيته في هذا الصدد عرقلة وقيدا جديدا أمام الباحثين والمشتغلين على الثقافة العربية والإسلامية، واحتكارا لحق البحث وتقديم الرؤى التجديدية  ليكون قاصرا فقط على الأصوليين وخريجي العلوم الشرعية.

د. وحيد عبد المجيد

(يتبع)

 

بلال مؤمن

كاتب و محرر مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock