منوعات

بيرم التونسي.. لم يكسره عدو ولم يحمه حبيب (2ـ 3)

كان بيرم التونسي يدرك بفطرته السوية أن المصريين شعب من الجِمَال، يصبرون على الجوع والظمأ وعلى الأذى وعلى برد الصحراء وقيظها، صبرًا يجعل الذين لا يعرفون نفسية الشعب يظنونه كومة من الجماد الذي لا يحركه شيء، ثم فجأة يرد عليهم هذا الشعب منتفضًا ومحطمًا كل سد يحول بينه وبين تحقيق أحلامه.

فهم بيرم لطبيعة الشعب المصري، جعله يوقد شرارة ثورة 1919 قبل أن تصبح الشرارة نارًا تحرق الاحتلال، كل ما كتبه بيرم قبل الثورة كان تمهيدًا وحشدًا لها، فقد سخر من الاحتلال وأعوانه وحرّض الشعب على الوقوف في وجوههم.

اقرأ أيضا:

مقالات ذات صلة

اشتعلت الثورة من أسوان إلى دمياط، فكان بيرم أول المساندين ولم يكتف بالقصائد والأزجال، بل أصدر جريدته «المسلة» ولكي يهرب من قهر الرقابة كتب في ترويستها: «المسلة لا جريدة ولا مجلة» وقد كتب بمفرده كل موادها، وإمعانًا في تحدي الاحتلال وعبيده وضع صورته على غلاف الجريدة، وطبع من عددها الأول خمسة آلاف نسخة، وقام بتوزيعها بنفسه، قاصدًا رواد المقاهى وموظفي الحكومة، وقد أحسن السكندريون استقبال الجريدة فنفذ عددها الأول، وأصبح اسم بيرم وجريدته على كل لسان.

غلاف أول عدد من جريدة المسلة ويحمل صورة بيرم 4 مايو عام 1919

رأي بيرم أن مغادرته للإسكندرية وإقامته في القاهرة سيخدم آمال الثورة، فسكن القاهرة وفيها التقي لأول مرة بالموسيقار سيد درويش، الذى كان معجبًا ببيرم وبشعره، متمنيًا أن يساعده بيرم في تطوير فن الغناء العربي. كان الوقت وقت ثورة، وكانت الأحلام عظيمة، كان الموسيقار يحلم بتأليف أوبريت مصري من الألف للياء، فطلب من بيرم كتابته، وقال له نصًا: «حجة الإنجليز الدائمة لتبرير استعبادنا أننا شعب ضعيف لا يستطيع حكم نفسه، عشان كده أنا شايف إن الأوبريت من أوله لآخره يكون تمجيدا للإنسان المصري».

كتب بيرم الأوبريت تحت عنوان «شهو زاد» في إشارة إلى شهوات أسرة محمد على التي تحكم مصر بتحالفها مع المحتل، ولكن الرقابة رفضت العنوان، فجعله بيرم «شهر زاد»، وعرض الأوبريت وحقق نجاحًا ساحقًا، وبعد مرور مئة عام على عرضه، ما نزال نحفظ ونردد بعض أبياته «أنا المصرى كريم العنصرين / بنيت المجد بين الأهرمين / جدودى أنشأوا العلم العجيب / ومجرى النيل فى الوادى الخصيب».

وقعت الواقعة

في القاهرة أصدر بيرم العدد الثاني من «المسلة» وفي القاهرة ستقع الواقعة. يقول المؤرخ المصري العظيم «ابن إياس: «أهل مصر لا يطاقون إذا أطلقوا لسانهم في حق الناس». وقد أطلق المصريون لسانهم في حق الأميرة «فوقية» ابنة الملك فؤاد( السلطان آنذاك) من زوجته الأولى شويكار، بعدما تردد عن علاقة خاصة ربطت وحسين باشا فخرى الذي كان محافظًا للقاهرة.

تلقف بيرم التونسي، الذي راهن على قدرة الثورة على تخليص البلاد من حكم فؤاد، الشائعة، ليكتب عنها قصيدته الشهيرة «القرع السلطاني» والقرع هو «الكوسة» مع ما تحمله الكلمة من إيحاءات معروفة. نشر بيرم القصيدة في جريدته المسلة وكان أبرز أبياتها يقول صراحة: «الوزة من قبل الفرح مدبوحة / والعطفة من قبل النظام مفتوحة». فجن جنون الملك فؤاد عندما وصلته القصيدة التي انتشرت كالنار في الهشيم، ولكن ماذا يفعل فؤاد مع بيرم؟.. بيرم هو مواطن تونسي حسب الأوراق الرسمية، وهو بهذه الصفة من رعايا فرنسا التي كانت تحتل تونس، وفؤاد لا يستطيع طرد رعية فرنسية من مصر.

 ورغم أن موضوع هذه القصيدة مر بسلام وكتم فؤاد غضبه، إلا أن بيرم واصل بعدها نشر قصائده التي تنال من فؤاد وعائلته جميعًا، فقرر فؤاد إغلاق جريدة «المسلة»، فأصدر بيرم جريدة جديدة أطلق عليها اسم «الخازوق» مواصلًا الاشتباك الحاد مع العائلة المالكة.

رحلة العذاب

سعى فؤاد بكل قوة لطرد بيرم التونسي من مصر، وأخيرًا نجح في إبعاده إلى تونس، ليعود  إلى أرض أجداده يوم 25 أغسطس عام 1920. ومن المفارقات أن اليوم كان يوم عيد الأضحى، وكأن فؤاد كان يذبح بيرم بنفيه عن مصر. وبعد نفيه إلى تونس بقليل، وضعت زوجة بيرم ابنته الثانية، وبعد أن تأكدت أنه لن يعود إلى مصر طلبت الطلاق وحصلت عليه.

في تونس دفع بيرم ثمن جذور جدته التركية. وعن ذلك يقول بيرم في مذكراته: «اقتصرت علاقتي بعائلتي على المجاملات البسيطة، لأن العائلة كانت قد أصبحت إقطاعية ذات مناصب، منطوية على نفسها، وكانت الدعاية التي تحوطني في تونس، أنني كنت أحد الثائرين في مصر ضد بريطانيا لصالح تركيا، فكان مدير الفندق الذي أقيم فيه يقول للخدم: «أعطوا التركي مفتاح غرفته علشان يرقد».

 وهكذا أصبح بيرم بمفرده تمامًا، فلا عائلة ولا مال ولا جماهير تحمي وتساند، لكنه لم ينكسر. حاول العمل، لكن كل الأبواب أغلقت في وجهه، حاول مشاركة بعض الكتاب التونسيين لكي يصدروا جريدة، لكن السلطات الفرنسية كانت له بالمرصاد. ضاقت عليه الأرض بما رحبت، فغادر تونس بعد أربعة أشهر فقط إلى فرنسا.

في معمعة برد الشتاء الفتاك وصل بيرم إلى ميناء مارسيليا، لكن البرد والغربة وعدم إجادته للفرنسية، جعلته يغادر مارسيليا بعد ثلاثة أيام فقط، متجهًا إلى باريس. هناك لم يجد سوى البطالة والفقر والغربة والبرد، لكنه لم يخاصم الشعر الذي جلب له كل هذا العذاب.

ميناء مارسيليا

رأى بيرم بعين الإنصاف إقبال الفرنسيين على العمل فكتب:

«الفجر نايم وأهلك يا باريس صاحيين

معمرين الطريق داخلين على خارجين

ومنورين الظلام راكبين على ماشيين

بنات بتجري وياما للبنات أشغال

وعيال تروح المدارس في الحقيقة رجال

ورجال ولكن على كل الرجال أبطال

ولسه حامد وعيشة وإسماعيل نايمين».

لكنه مع ذلك فشل في أن يجد عملًا في باريس، فنصحه العرب المغتربون بالسفر إلى مدينة ليون، حيث عاني الأمرّين. وعن حياته ومعاناته في تلك المدينة يقول بيرم في مذكراته: «سعيت بنفسي إلى ليون مدينة صناعة الصلب في فرنسا، تلك المدينة التي لأهلها قلوب مثل الصلب لا تعرف الرحمة أو الشفقة، وهي أيضًا مدينة مشهورة عند الفرنسيين أنفسهم بأنها مدينة معتمة.. وصلت لهذه المدينة في عز الشتاء، ولأن جيوبي كانت شبه خاوية فقد أخذت المسألة من أقصر طرقها، وذهبت إلى أفقر أحيائها، واستأجرت فوق سطوح أحد المنازل شيئاً يسمونه حجرة، كانت من الخشب الذي حولته مياه الأمطار إلى مكان له رائحة من نوع خاص، إنها رائحة قريبة من العفن، وداخل تلك الثلاجة كنت أنام الليالي القاسية البرودة، وفي النهار كنت أسعى مع الفجر في البحث عن عمل قبل أن يتبخر آخر مليم في جيبي». 

مدينة ليون

التحق بيرم بأحد مصانع الحديد والصلب، لكنه تركه بعد أن سقطت على فخذه قطعة من الحديد كبيرة، ليعود  للبطالة والغربة والفقر والبرد مضافًا إليهم الجوع. لقد جاع مرة لثلاثة أيام متصلة، جاع في مدينة تصل الحرارة فيها إلى ما تحت الصفر، وقد وصف جوعه في مذكراته وصفًا مذهلًا، فقال: «كنت أثناء الجوع أمر بمراحل لا يشعر بها غيري من الشبعانين، كنت في البداية أتصور الأشياء واستعرضها في ذاكرتي، هذا طبق فول مدمس، وهذه منجاية مستوية.. وهذه يا ربي رائحة بفتيك تنبعث من عند الجيران، ثم أصل بعد ذلك إلى مرحلة التشهي، أثناءها تتلوى أمعائي، ويبدأ المغص، ويطوف الظلام حول عيني، وأتمنى من الله أن ينقلني إلى الآخرة، فهي أفضل من هذا العذاب الأليم.. وأخيرًا تبدأ مرحلة الذهول وخفة العقل، فأطيل النظر إلى اللحاف الذي يغطيني، وتحدثني نفسي أن آكل قطنه أو أبحث عن بذرة للغذاء تحتوي على زيوت».

البصلة التي أحرقت كنزا

في نوبة من نوبات الجوع خسر الأدب العربي بل العالمي كنزًا لم يعوضه كنز، جاع بيرم حتى وصل لمرحلة الهذيان، فتش غرفته للمرة الألف، فوجد بصلة، فراح يستحلب ريقه وهى يتخيلها مشوية، فبحث عن كبريت ليشعل النار ويشوي البصلة فلم يجد. بعد طول تردد طرق باب جاره الذي قدم له متأففًا عودًا واحدًا، حاول بيرم إشعال العود ففشل، طرق باب جاره ثانية، لكن الجار رفض إعطاءه عودًا جديدًا. ظل بيرم واقفًا أمام باب غرفته يرتجف من البرد والجوع، حتى صعد جار قدم لبيرم علبة كبريت كاملة.

بعد حل مشكلة الكبريت، تذكر بيرم أنه لا يمتلك أي نوع من المواد الصالحة لأن تكون وقودًا يشوى عليه البصلة. وبعد طول تفكير جاء بيرم بقواميس اللغة، والخطابات التي أرسلها إليه عباس العقاد و سيد درويش، ومع الخطابات وضع ديوان أبي العتاهية، وأشعل النار منتظرًا الشواء الجميل، وسرعان ما احترقت الخطابات الغالية وسقطت البصلة بين رمادها، فخسرنا كنزًا من الخطابات المتبادلة بين العمالقة ولم يربح بيرم بصلة مشوية.

أحد الطوابع تحمل صورة بيرم التونسي

جرح غائر

تنقل بيرم بين شتى المهن، فعمل في مصنع للكيماويات، كان سببًا في إصابته بمرض الربو الذي مات به. لكن الذي كان يؤلم بيرم الألم كله، لم يكن العمل في مهن لا تليق بشاعر مثله، بل كان يؤلمه حقًا الجحود وعدم حماية أحبابه له. من هؤلاء الأحباب الذين تخلوا عنخ كان سعد باشا زغلول وجه الثورة المصرية الأبرز، والذي من أجله عادى كل من وقف في وجه سعد.

عرف بيرم أن سعدًا في باريس، فتوجه لمقابلته لكي يتوسط له في إعادته إلى مصر، فماذا كان موقف سعد؟… يقول بيرم: «أخذ سعد يرفعني ويخفضني ببصره، ثم أشار الى الباب دون أن يرد على كلامي بنعم أو لا»…

فلماذا تنكر سعد باشا لبيرم؟… بيرم نفسه لا يقدم جوابًا، فهل تنكر الباشا شراءً لخاطر فؤاد؟، أم تراه تنكر لمعرفته بأن بيرم ابن قصيدته وليس ابنًا لحزب أو لجماعة؟.. هل تنكر له لأن بيرم خاض في أعراض الملوك، وهؤلاء كانوا أولياء نعمة مصطفى باشا فهمي والد زوجة سعد، صفية زغلول؟

لا توجد إجابة يقينية، لكن موقف الباشا من بيرم دفعه لأن يقرر العودة إلى مصر وليكن ما يكون، وقد عاد فعلًا و هو ما سنروي عنه الأسبوع المقبل بإذن الله.

(يتبع)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock