منوعات

خير الدين التونسي.. العبد الذي أصبح الصدر الأعظم

كان خير الدين ضحية الحرب التي دارت رحاها بين السلطنة العثمانية والامبراطورية الروسية في بلاد القوقاز. ولد خير الدين عام 1820، ولا ندري إن كان هذا هو الإسم الذي حمله منذ ميلاده أم لا؟، لكن المؤكد أنه قد جىء به من أبخازيا عبدا وبيع في اسطنبول ليشتريه تحسين بك أحد وجهاء أسطنبول، حيث مكث عنده حتى بلوغه السابعة عشرة من عمره، ليباع مرة اخرى إلى باي تونس (والي تونس)الذي سعى إلى تعزيز صفوف مماليكه بالشراكسة المعروفين بجلدهم وقدرتهم على القتال، وليكتسب بذلك لقب خير الدين التونسي.

لكن الفتى الذي أتقن فنون القتال والعسكرية كانت لديه ميول أخرى سهّلت عليه اتقان اللغتين التركية والعربية، لينشغل بمعرفة أحوال العالم والممالك من حوله، بينما كان يترقى في مساره العسكري حتى حصل على لقب (جنرال) في الجيش التونسي.

مفكر ومنظر

كانت رحلة خير الدين الأولى إلى باريس في زمرة الباي العثماني أحمد بك الذي سافر مقتفيا أثر وزير ماليته اللص الذي أفرغ الخزانة التونسية فارا إلى بلاد الفرنسيس عام 1846، حيث كُلّف خير الدين من الباي بمتابعة القضية المرفوعة ضد الوزير ابن عياد والتي استغرقت ثلاث سنوات، أتاحت له إتقان الفرنسية والتشبع بروح الحضارة الفرنسية، وقراءة مؤلفات عصر التنوير، بالإضافة إلى دراسة هيكل وإدارة مؤسسات الدولة الفرنسية الحديثة، وحيث وضع يده على أسباب التقدم والازدهار في بلاد الغرب.

Related image

الباي العثماني أحمد بك

ذهب خير الدين إذن ،إلى فرنسا عسكريا ورجل دولة، لكنه عاد مفكرا تنويريا ومنظرا إداريا ليس فقط للولاية التونسية، وإنما للسلطنة العثمانية بأطرافها المترامية ككل. وعقب عودته ساهم في إصدار وثيقة «عهد الأمان» والتي أقرت مساواة التونسيين في الحقوق، وتولّى رئاسة المجلس الكبير (مجلس الأعيان) الّذي أقرّه محمّد الصّادق باي، والّذي أخرج أوّل دستور في تونس وفي العالم العربي والإسلامي سنة 1861.

Image result for ‫محمّد الصّادق باي‬‎

محمّد الصّادق باي

 كما عُيّن خير الدين وزيرًا للحربيّة لكن رؤاه الإصلاحية أوقعته في صدام مع بعض بعض كبار رجال الدولة، فاستقال معلنا اعتزال العمل الرسمي عام 1862، وعكف لسنوات على قراءة كتب السياسة والفكر، وهي الفترة التي شهدت نقاشات عميقة له حول شروط النهضة وخطواتها مع رواد الإصلاح حينها مثل الجنرالين حسين ورستم والزّيتونيين أحمد ابن أبي ضياف ومحمّد بيرم الخامس، ليصدر عام 1867 تحفته (أَقْوَم المسالك في معرفة أحوال الممالك)، وهو الكتاب الذي ماثل كتاب رفاعة الطهطاوي في المشرق العربي (تخليص الإبريز في تلخيص باريز).

في هذا الكتاب طرح خير الدين التونسي أهم أفكاره حول النهضة العربية، وأدوات ذلك من خلال إصلاح النظام الإداري، والنهوض بالتعليم، والأخذ بمنجزات الحضارة الأوروبية، مع الحفاظ على الهوية والثقافة العربية والإسلامية.

خطة الإنقاذ

لكن الرجل الذي أعلن اعتزاله للعمل السياسي وتفرغه للتنظير الفكري والثقافي ما لبث أن اضطر للعودة لإنقاذ الدولة التونسية من الوقوع بين براثن الاستعمار، حين غرقت تونس في الديون للدول الأجنبية على غرار غرق الدولة المصرية في الديون خلال حكم الخديوي اسماعيل.

 عاد خير الدين إلى السياسة ليتولّى خطّة الوزارة الكبرى من سنة 1873 إلى سنة 1877، حيث بادر بإعادة تنظيم الإدارة وإصدار حزمة من القوانين في إطار مشروع إصلاحي واعد تضمّن: «قانون لتنظيم الأوقاف، إصلاح التعليم الزيتوني (جامع الزيتونة)، وإنشاء مدرسة عصرية (الصّادقية)، وسن قانون لتنظيم القطاع الفلاحي، وانشاء مؤسّسة للأرشيف لحفظ وثائق الدّولة. كما عمل على إرساء الأمن والاستقرار واهتمّ بالتخطيط العمراني للعاصمة واضعا مخطّطا بدأه في تونس لتعتمده فرنسا فيما بعد.

وقد تمّ عزله من طرف محمّد الصّادق باي سنة 1877 بعد الدّسائس الّتي كانت تحاك ضدّه من قبل الوزيرين مصطفى خزندار ومصطفى إسماعيل.

لكن نجاح خطة الانقاذ التي أقدم عليها خير الدين في تونس كانت سببا في ذيوع صيته مما دفع السلطان عبد الحميد الثّاني لاستقدامه  إلى أسطنبول حيث عينه صدرا أعظم (بمثابة رئيس وزراء للسلطنة العثمانية)، محاولا الاستفادة من خبراته لحل المشكلات العديدة والصعبة الّتي كانت تتخبّط فيها الخلافة العثمانية بعد حربها مع روسيا. وخلال مدّة تكليفه تمكّن من حلّ الكثير من النّزاعات الحدودية مع روسيا وغيرها وكانت له إسهامات في عديد الملفّات الأخرى.

تنوعت مواهب واهتمامات وقدرات خير الدين التونسي في الجوانب الإصلاحية المختلفة ما بين التعليم، والإصلاح الإداري والتنظيمي، والتخطيط العمراني، والإصلاح السياسي، والدعوة للمساواة والعدالة الاجتماعية التى جعلت من التونسي في نظر البعض مشروعا إصلاحيا متكاملا، وربما كان في جعبته الكثير من الحلول لنهوض الإمبراطورية العثمانية لو لم يوافه الأجل، مخلفا امبراطورية عثمانية ضعيفة تسير نحو الهاوية.

شاهد قبر خير الدين باشا

 فقد توفي خير الدين التونسي في الحادي والعشرين من يوليو عام 1890، ودفن في إسطنبول قبل أن ينقل رفاته إلى تونس سنة 1968، بناء على طلب من الرّئيس الرّاحل الحبيب بورقيبة، الذي كان يرى في نفسه امتدادا لمشروع خير الدين الإصلاحي.

بلال مؤمن

كاتب و محرر مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock