منوعات

حنا ميخائيل.. رفيق إدوارد سعيد الذي اختار المقاومة والنضال

كان من أخطر نتائج تنامي وصعود تيارات الإسلام السياسي في سبعينات القرن الماضي – صبغ القضية الفلسطينية بالمسحة الدينية، بحيث تصدرت حركة المقاومة الإسلامية(حماس) المنتسبة لحركة الاخوان المسلمين، وحركة الجهاد الإسلامي، مشهد المواجهة مع الكيان الصهيوني، فيما جرى تهميش الكثير من حركات النضال اليساري في هذا المشهد، واستبدلت مفردات مثل (المقاومة، والنضال) بالجهاد.

Related image

بل وصل الأمر حد تخوين كثير من حركات المقاومة الفلسطينية غير الإسلامية، وعلى رأسها حركة فتح  وقادتها، رغم أنها الحركة التي حملت عبء ولواء المقاومة الفلسطينة ضد الاحتلال الصهيوني، لعقود متتالية من قبل أن يكون هناك حماس أو غيرها من أذرع الإخوان المسلمين.

وربما ليس هناك دليل على ذلك أوضح من تغافل الإعلام القريب من الإسلام السياسي وتجاهله لبطولة منسية بين جدران السجون لمناضل مثل (مروان البرغوثي) أمين سر حركة فتح الضفة الغربية، والذي قضى أكثر من 18 عاما في سجون الاحتلال، محكوما عليه بالسجن مدى الحياة.

Image result for ‫مروان البرغوثي‬‎

مروان البرغوثي

لكن البرغوثي لم يكن استثناء في هذا التجاهل  وإنما هو نموذج لمناضلي الظل الذين اختاروا أن يضحوا من أجل وطنهم بعيدا عن الأضواء، ودون حاجة لتوظيف فصائلي او مغنم شخصي، وبمناسبة ذكرى وفاة واحد من هؤلاء – أو بالأحرى اختفائه- نقف في السطور القادمة، عند نموذج آخر من المناضلين الفلسطينيين، الذين ضربوا أروع الأمثلة في العطاء ،وهو الدكتور حنا ميخائل؟ فمن هو؟ وما حكايته؟

د. حنا ميخائل

في صبيحة يوم من أواخر أيام يوليو 1976، و في غيمة كثيفة تلاقى فيها الضباب مع أدخنة الحرائق المتصاعدة من أحياء بيروت الغارقة في حرب أهلية، تسللت مجموعة من تسعة أشخاص من قيادات فتح في مهمة سرية إلى شمالي لبنان، تحركت المجموعة في قارب صغير من منطقة الحمام العسكري في بيروت باتجاه الشمال، لتعذر المرور فى الطرق البرية غير الآمنة.. لكن المجموعة إختفت ولم يعثر لأي منهم على أثر، ولم يعرف ما إذا كانوا قد غرقوا في الماء أم قتلوا ووريت أجسادهم التراب.. وبذلك كتبت نهاية أحد أهم الفدائيين والمنظرين العرب للصراع العربي الإسرائيلي، المناضل الفسطيني (حنا ميخائيل). فمن هو أبو عمر؟ وما هو مصيره؟ ولماذا أحاط الغموض بنهايته؟

اقرأ أيضا: 

من جامعة هارفارد إلى أزقة المخيم

ولد حنا ميخائيل في رام الله عام 1935 وتخرج من مدرسة الفرندز عام 1952 التي تديرها جماعة الكويكرز المسيحية المعروفة بتأييدها المطلق للقضية الفلسطينية. سافر في بعثة للولايات المتحدة لدراسة الكيمياء في جامعة هارفارد في نيوجرسي حيث تعرف في أواخر الخمسينيات على طالب فلسطيني آخر كان يدرس الأدب في جامعة برنستون الشهيرة بنيوجرسي إسمه «إدوارد سعيد» ومنذ ذلك الوقت توطدت العلاقة بينهما.

 يقول إدوارد سعيد بعد لقائه الأول مع حنا: «أعجبت فورا بتواضعه الجم وتهذيبه إضافة إلى عقله الوقاد». قرر حنا أن يغير موضوع دراسته من الكيمياء إلى الشرق الأوسط والدراسات الإسلامية في جامعة هارفارد، وهناك التقى بهنري كيسنجر الذي كان أحد اساتذته، في تلك الأثناء وتحديدا في الفترة من 1965-1966 كان حنا يعمل مدرسا للغة العربية لطلاب دراسات الشرق الأوسط في جامعة برنستون.   

Image result for ‫إدوارد سعيد‬‎

إدوارد سعيد

 من جديد التقيا (إدوارد، وحنا) في أكسفورد ليحصل كل منهما على شهادة الدكتوراه في مجاله. كانت أطروحة حنا بعنوان «السياسة والوحي.. الماوردي وما بعده» التي حصل عليها عام 1968 تحت إشراف المستشرق البريطاني الأشهر سير هاملتون جيب، الذي كان إنتقل حديثا من أوكسفورد إلى هارفارد، وفي الوقت الذي كانت العروض تتلاحق عليه للعمل في كبريات الجامعات البريطانية والأمريكية حيث عمل في جامعة سياتل في واشنطن ليعمل أستاذ مساعد في دراسات الشرق الأوسط.

كانت أصداء هزيمة يونيو عام 1967 لا تزال تهز أركانه، وكان لظهور حركة المقاومة الفلسطينية طريقا للكثير من المناضلين واليساريين للانضمام للثورة، وسرعان ما انضم الدكتور حنا ميخائيل إلى حركة «فتح» بعدما تحولت في أعقاب معركة الكرامة 21/3/1968 من حركة مقاومة إلى حركة تحرر وطني، وبروح الثوري انقلبت حياة حنا رأسا على عقب، فانفصل عن زوجته الأمريكية وسافر إلى عمان، وتحول من الدكتور حنا ميخائيل إلى شخصية المناضل «أبو عمر»، وهكذا تخلى حنا ميخائيل عن حياة الوداعة والرفاهية في الأوساط الأكاديمية والبحثية الغربية، واختار طريقا محفوفا بالمخاطر ومستقبلا غامضا وانضم لحركة فتح في الأردن عام 1969 ليساهم بفكره ووعيه في عملية تحرير فلسطين.

Related image

في صفوف الثوار

إنضم أبو عمر إلى دائرة العلاقات الخارجية في حركة فتح في الأردن، وتمكن من إقامة أمتن علاقات مع اليسار الفرنسي والإيطالي والأمريكي، وكان في الوقت نفسه يعمل في «القطاع الغربي» تحت قيادة الشهيد كمال عدوان، وهو القطاع المسئول عن العمليات الفدائية السرية داخل الأراضي المحتلة، كما كُلف من قبل فتح للعودة إلى الولايات المتحدة الأمريكية لمناظرة رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية الاسرائيلية يهوشفاط هركابي في برنامج أمريكي شهير.. وهي المناظرة التي أجاد فيها حنا وأحرج المناظر الصهيوني.  

في تلك الأثناء كانت تربطه علاقة صداقة متينة مع الأديب الفرنسي المعروف جان جينيه، الذي كتب عن الفدائيين في الأردن وعن «أبو عمر» كتاب « الفدائي العاشق». وهو صاحب نصّ «أربع ساعات في شاتيلا» الذي كتبه مباشرة بعد مجزرة صبرا وشاتيلا. وقد زار جان جينيه أبو عمر في مرحلة بيروت. وهناك قدم أبوعمر إدوارد سعيد إلى جان جينيه. وفي أواخر العام 1971 أصبح أبو عمر عضواً في قيادة «القطاع الغربي» خلال تولي الشهيد كمال عدوان لقيادة هذا القطاع.

التحق أبو عمر بدورة عسكرية في فيتنام سنة 1975 مدتها ستة شهور تركت بصماتها عليه كثيرا وقرر أن ينقل بعض تجارب الفيتناميين للثورة الفلسطينية وخاصة الجدية والوعي والتواضع. وللمفارقة كان قائد  تلك الدورة المناضل عبد الحميد محمود وشاحي المعروف باسم «نعيم» الذي اختفى معه عام 1976. وكان نعيم من ألمع قادة فتح العسكريين، رغم أنه لا يعرف القراءة والكتابة، لكن أبو عمر علمه بصبر وتواضع مبادئ الكتابة والقراءة لاحقا.

المناضل عبد الحميد محمود وشاحي

بدأ حنا في بيروت يجمع من حوله مجموعة من المثقفين الثوريين والمتماثلين في الرأي والذين بدأوا يدركون الاتجاه الذي تسير فيه القيادة الرسمية والقوى المسيطرة في حركة فتح. كان غير سعيد للاتجاه الفردي السلطوي الذي يعظم القائد الفرد وكان غير راض عن التبذير الأخرق وكان من أوائل الذين حذروا من تدفق أموال البترودولار على الثورة لإفسادها وحرفها عن مسارها. بدأت أفكاره تنتشر داخل صفوف فتح وبدأت تتشكل مجموعات صغيرة تؤكد على مبادئ إنطلاقة فتح التي تعتبر الكفاح المسلح وحرب الشعب طويلة الأمد «إستراتيجية وليس تكتيكا» وتؤكد على التضامن مع الشعوب العربية لا مع الأنظمة الفاسدة وتُعلي من شأن القيادة الجماعية وممارسة النقد الذاتي والتصحيح والتعلم من تجارب الآخرين، وقد تلقى الكثير من النصائح والتحذيرات من المقربين بعدم التمادي في النقد للحركة وقياداتها وسياساتها. لكن تلك التحذيرات لم تجد في إثناء المناضل الذي ضحى بكل شىء في سبيل قضية وطنه.

لقد بذل  أبو عمر أثناء وجوده في بيروت جهودا حثيثة لتأسيس «التيار الديمقراطي» داخل حركة فتح. وقد أنجز دراسة مهمة عن هذه المسألة، كما أنجز الوثيقة الفكرية للتيار الديمقراطي في الحركة وهي بعنوان «ملاحظات أولية حول الثورة العربية». وكانت تتطلع إلى بناء حزب فلسطيني مقاتل، وحزب عربي جذري يسترشد بالتجربتين الفيتنامية والصينية.

حركة فتح

يحكي إدوارد سعيد: «أذكر ذات مرة أنه شكى لي حماقة التورط الفلسطيني في الشؤون اللبنانية، وكانت نبوءته صادقة لأن ذلك التورط أدى في النهاية إلى كارثة 1982. لكنه نظر أيضا بعدم ثقة إلى السياسات العربية التقليدية، التي كانت السياسة الفلسطينية قد أصبحت نسخة مبتذلة منها. وأكثر من أي شيء احتقر عبادة البندقية وعبادة الفرد وأدرك أنها تمنح إحساسا سطحيا وفوريا بالرضا، لكنها كانت تُستغل بسهولة بالغة من قبل العناصر الانتهازية وغير المبدئية»

اقرأ أيضا:

الاختفاء الغامض

خلال الحرب الأهلية في لبنان كان هناك العديد من المشاكل في تنظيم فتح في شمال لبنان..كان بعض قياداتها قد عاثوا  فى الأرض فسادا، وكثرت الشكوى من سلوك (غازي عطا الله) أبو هاجم وجماعته، فقرر عرفات في يوليو 1976 إرسال مجموعة قيادية نظيفة من عشرة أشخاص لتولي الأمر. واختير نعيم ليكون قائد تلك المجموعة وأبو عمر نائبه ومفوضاً سياسياً للحركة هناك.

اللواء غازي عطا الله «أبو هاجم»

لم يكن ثمة طريق من بيروت إلى طرابلس: فطريق الجبل – البقاع – الهرمل لا يمكن استخدامه بسبب الصراع العسكري مع الجيش السوري، ومن المحال استخدام طريق الساحل بسبب الحرب مع الجبهة اللبنانية، والقوات العسكرية لحزب الكتائب..فلم يبق أمامهم سوى البحر

 تحركت المجموعة في قارب صغير من مرسى الحمام العسكري في منطقة المنارة برأس بيروت باتجاه الشمال، لكنها اختفت كما هو معروف ولم يعثر لأحد منهم على أثر، تعددت الروايات حول طريقة إختفائهم. منها أن الإسرائيليين إحتجزوا القارب وسلموا المجموعة لقوات الكتائب التي قامت بإعدامهم، رواية أخرى مرجَحة تقول أن قوات الكتائب حاصرت المجموعة فور نزولها على الشاطئ اللبناني وسلمت أفرادها بعد حين إلى القوات السورية التي كانت آنذاك تحاصر تل الزعتر.

 يبدو إختفاء حنا ورفاقه كما لو كان مهمة خُطط لها بصورة حمقاء للتوجه في قارب صغير وبدون حراسة من بيروت إلى طرابلس في مياه كانت تجوبها باستمرار دوريات تابعة للقوات الإسرائيلية ومليشيا الكتائب، لكنها في جانب آخر تبدو كما لو كانت عملية مٌدبرة للتخلص من حنا ميخائيل ورفاقه الذين مثلوا الجماعة الأنقى والأعف ثوريا في حركة فتح.

طوال سنوات ظلت زوجته المناضلة جيهان الحلو تنتظر عودته، لاسيما بعد أن أخبرها بعض المعتقلين السابقين في سجن «تدمر» السوري بمقابلتهم للدكتور حنا ميخائيل، لكن حنا الذي اختار اسم «أبو عمر» ككنية له على الرغم من تعارض اللقب الظاهري مع هويته الدينية لم يظهر له أثر بعد ذلك، وأيا ما كان سيظل أبو عمر رمزا لحالة من النقاء الوطني الذي لو قدر لنا استثماره ما وصل واقعنا العربي إلى ما نحن عليه من طائفية وتمزق وانبطاح أمام الغازي والمستعمر.

 Related image

المناضلة جيهان الحلو

 

بلال مؤمن

كاتب و محرر مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock