منوعات

الأخطل الصغير.. الشاعر الذى علَّمَنا الغزل

ولد بشارة الخوري في بيروت روح الطبيعة و عاصمة الجمال، فامتزج بها كيانه، وصادق هدوؤها ووقارها وجمالها الخلاب نفسه فكان كشجرة أرز باسقة يداعبها هواء شاطىء بيروت العليل على ساحل المتوسط فتلقي بظلالها الوارفة هنا وهناك.

ابن الطبيعة

تبدو شاعرية الأخطل حالة من الاستجابة التلقائية للمدينة الجميلة التي ولد وعاش ودفن في كنفها، يعبر عن نفسه فيستخدم مفرداتها بقدرة على النظم والتوظيف والتركيب نادرة التكرار، فكلمات بشارة كفيلة بأن ترفعك إلى قمة جبل، أو تضعك على أمواج بحر هادر، أو تدفعك لمصافحة نسمة هواء جميلة، أو مراقبة غزال شارد، هو ابن الطبيعة وشاعرها وناظمها البار لذلك سمي بشاعر (الحب والهوى)، وشاعر( الصبا والجمال).

في النصف الثاني من القرن التاسع عشر كانت سوريا الكبرى (لبنان، وسوريا) بلادا طاردة لكثير من مواهبها التي عانت من كبت وضغوط الولاة العثمانيين، فكانت هجرة الصحفيين والأدباء اللبنانيين إلى مصر وأمريكا اللاتينية فهاجر أمثال سليم وبشارة تقلا مؤسسيْ الأهرام، وجُرجي زيدان، وجبران خليل جبران، وهي الموجة التي ستستمر حتى الربع الأول من القرن العشرين مع هجرة مطران خليل مطران، وإيليا أبو ماضي، وميخائيل نعيمة، ليظهر هناك ما يسمى بشعراء المهجر، وسط هذه الحالة بدا شاعرنا بشارة عبدالله الخوري الذي ولد في بيروت عام 1885 حالة استثنائية، حيث عاش وعمل واشتهر فى مسقط رأسه ومسرى فؤاده بيروت.

 درس بشارة الملقب بالأخطل الصغير نسبة إلى الشاعر الأموي الأخطل التغلبي-  في أوائل حياته في الكُتَّاب الذي كان مشهورًا أيام وجود العثمانيين في البلاد العربية، ثمَّ تابع الشاعر دراسته في مدرسة الحكمة ومدرسة الفرير ومدارس أخرى في بيروت، وكان أحد الذين تلقوا تعليمهم على يد الأديب واللغوي والمترجم  القدير عبدالله البستاني بمدرسة الحكمة.

ونطق بالشعر أخيرا

تراوحت اهتمامات بشارة ما بين الأدب والصحافة على عادة أدباء ومثقفي تلك المرحلة التاريخية من الزمن العربي فأصدر جريدة «البرق» 1908 في وقت كان فيه صراع الصحافة اللبنانية التي تنادي بالقومية العربية- قد بلغ أشده مع العثمانيين، حتى أقدمت السلطات العثمانية على الجريمة الأبشع في تاريخ الصحافة العالمية بإعدام نحو ستة عشر صحفيا لبنانيا بساحة الشهداء كان من بينهم عبدالغني العريسي الذي قال عبارته الشهيرة (ليعلم جمال باشا ومن معه أن الدول لا تبنى على غير الجماجم، وأن جماجمنا ستكون أساسا لاستقلال بلادنا)

اقرأ أيضا:

لم يُظهر الأخطل الصغير نبوغا شعريا منذ بدايته، وإن اعتاد الاختلاف إلى مجالس وحلقات سادة الشعر وسدنته، ومما  روى عن بداياته أنه كان عضواً في حلقة الشيخ اسكندر العازار، يختلف إلى مجالسه فيُصغي مع المُصغين إلى نوادره الأدبية والشعرية، ويقرض الشعر معارضاً كبار الشعراء. روي عن أحد أفراد هذه الحلقة أن الشيخ اسكندر العازار كان إذا قيل له: «ها هو ذا بشارة يقرض الشعر» يجيب: «بشارة صحافي، فاتركوا بشارة للصحافة يبرز فيها». إلا أن بشارة لم يقنع بالصحافة، بل عكف على النظم وطلع ذات يوم على شيخه ورفاقه بقصيدته الغزلية:

عشتَ فالعب بشعرها يا نسيمُ

واضحكي في خدودها يا كرومُ

فلما استمع إليها الشيخ اسكندر العازار، هتف قائلاً:

ما زال بشارة يهذي حتى نطق بالشعر أخيراً …

 

مقصد المطربين الكبار

كان بشارة في أشعاره يفيض بالرومانسية والعذوبة، ويفيض مٌعجمه الشعري بمفردات من وحي الطبيعة (كالنسيم، والعبير، والموج، والقمر، والزهر)، وهو قادر على صناعة تراكيب فريدة تدع الإنسانية ملتحمة مع الطبيعة، يكتب الأخطل قصائد الغزل كقصيدته (جفنه علم الغزل) فتحرك مفرداته أوراق الشجر، وكوامن النفس، وزقزقة العصافير، وتسقط حبات المطر في تلاحم عجيب، ولعل هذه هو ما دفع موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب حين سٌئل عن تلحينه لقصائد الأخطل (الهوى والشباب)، و(الصبا والجمال)، و(جفنه علم الغزل) لأن يجيب (أنا لم ألحن تلك القصائد لأنها جاء تني ملحنة من الأخطل الصغير)، وقد عبر الأخطل الصغير عن نفسه في قصائده فأحسن التعبير حين قال

أنا في شمال الحبِ قلبٌ خافقٌ

وعلى يمين الحق طيرٌ شادِ

غنّيتُ للشرق الجريح وفي يدي

ما في سماءِ الشرق من أمجادِ

كانت عذوبة كلمات الأخطل الصغير، وصوره الشعرية البديعة والسهلة الدافع الأول وراء إقبال العديد من كبار المطربين العرب  على غناء كلماته، فمن كلماته غنت أسمهان، ووديع الصافي، وفيروز، وفريد الأطرش، وعبدالوهاب، مجموعة من أجمل القصائد التي لقيت استحسانا لدى الجمهور العربي، فالمزج ما بين امكانات عود فريد الأطرش وقدرته على التلحين وكلمات بشارة الخوري كان من نتائجه أغاني خالدة ك (عش انت)، و(أضنيتني بالهجر)

 فى «عش أنت» تتجلى شاعرية وعبقرية الأخطل الصغير حين يقول

عش أنت أني مت بعدك          وأطل إلى ما شئت صدك

  كانت بقايا للغرام              بمهجتي فختمت بعدك

ماكان ضرك لو عدلت                أما رأت عيناك قدك

أما قصيدة «أضنيتنى بالهجر» فيقول فيها الأخطل :

أضنيتني بالهجر ما أظلمك             فارحم عسى الرحمن أن يرحمك

مولاي حكّمتك في مُهجتي            فارفق بها يفديك من حكّمك

ما كان أحلى قُبلات الهوى           إن كنت لا تذكُر فاسأل فمك

وكان للقاء كلماته مع سحر صوت فيروز ورقتها البالغة بعض من أجمل أغاني المطربة الإستثنائية.. ومثلا يقول:

يـا عاقدَ الـحاجبينِ          على الجبينِ اللجينِ

إنْ كنتَ تقصدُ قتلي        قـتلتني مـرتينِ

مـاذا يـريبك مني            ومـاهممت بـشْينِ

أصُـفرةٌ في جبيني         أم رعشةٌ في اليدينِ

تَـمرُّ قـفزَ غزالٍ              بينَ الرصيفِ وبيني

وما نصبت شباكِي          ولا أذنتُ لـعيني

تـبدو كأنْ لاتراني            ومـلءُ عينك عينى

ومـثلُ فعلِك فعلِي          ويلي من الأحمقين

وكذلك تغني له الموسيقار محمد عبد الوهاب برائعته «جفنه علم الغزل».

جفنهُ علَّم الغزلْ               ومن العلم ما قتلْ

فحرقنا نفوسنا                 في جحيم من القبلْ

ونشدنا ولم نزل                حلم الحب والشباب

حلم الزهر والندى            حلم اللهو والشراب

هاتها من يد الرضى            جرعةً تبعث الجنون

كيف يشكو من الظما       من له هذه العيون

يا حبيبي، أكُلَّما                         ضمنا للهوى مكان

أشعلوا النار حولنا                        فغدونا لها دخان

قل لمن لام في الهوى                     هكذا الحسن قد أمر

إن عشقنا.. فعذرنا                   أن في وجهنا نظر

عاش بشارة الخوري نحو 86 عاما، وتوفي في الحادي والثلاثين من يوليو 1968، بعدما خلف ديوانين من الشعر هما «ديوان الهوى والشباب»، و«ديوان شعر الأخطل الصغير» وبٌويع أميرا للشعراء في حفل كبير بقاعة الأونيسكو  ببيروت عام 1961م.

 

بلال مؤمن

كاتب و محرر مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock