منوعات

المسلمون في بريطانيا: تحولات لافتة في الرؤى والأفكار والهوية

ستيفن جونز – أستاذ علم اجتماع الأديان في «جامعة برمنجهام»، وأمين عام شبكة بحوث «المسلمون في بريطانيا»

ترجمة وعرض: أحمد بركات

في كتاب British Muslims: New Directions in Islamic Thought, Creativity and Activism (المسلمون البريطانيون: توجهات جديدة في الفكر والإبداع والنشاط)، يبين الكاتبان فيليب لويس، مؤلف كتاب Young, British and Muslim (2007) (شاب وبريطاني ومسلم) وصادق حامد، باحث أول في مركز أكسفورد للدراسات الإسلامية بجامعة أكسفورد ومؤلف كتاب Sufis, Salafis and Islamists: The Contested Ground of British Islamic Activism (الصوفيون والسلفيون والإسلاميون: أرضية نشاط الإسلام البريطاني المتنازع عليها) (2016) كيف تعيد الأجيال الجديدة في بريطانيا صياغة البنى التحتية المؤسسية الإسلامية. في هذا السياق يدعو الكتاب المفكرين والسياسيين إلى مراجعة رؤيتهم للمؤسسات الإسلامية في المملكة المتحدة، ويدافع عن فهم جديد ومختلف للإسلام البريطاني.

أكثر تشددا

منذ نحو عشر سنوات، بينما كانت بريطانيا تحاول أن تستوعب كيف أقدم أربعة أفراد ولدوا وترعرعوا على أرضها على تنفيذ عمليات انتحارية في عاصمتها لندن، ترسخت سردية حول الشباب المسلم في بريطانيا. وقد عبر بهيخو باريخ، الأكاديمي والمنظر السياسي البريطاني عن هذه السردية في كتابه A New Politics of Identity: Political Principles for an Interdependent World (سياسة جديدة للهوية: مبادئ سياسية لعالم مترابط) (2008) عندما أكد:

لا يدخل الإسلام في نسيج حياة مسلمي الجيل الثاني كأمر مسلم به أو أيديولوجيا مفروغ منها، كما كان الحال مع والديهم، وإنما كهوية تم تبنيها بوعي ذاتي وتحتاج إلى تأكيدها بصورة مستمرة، أو – بعبارة أخرى – كأيديولوجيا توفر لهم برنامج عمل واضحا. ومع تحول الإسلام عند أبناء الجيل الثاني إلى التزام واع، فقد صاحبه شعور عميق بالخوف من أن يعتري هذا الالتزام قدر من الضعف، أو أن تشوبه شوائب أخرى. ومن ثم صاروا أكثر تشددا ومغالاة لحماية أنفسهم من هذا الضعف، وليطالبوا الآخرين بدعمهم إذا كان ينبغي عليهم القيام بذلك.

 

في ذلك الوقت، بينما كانت هذه السردية تتعارض حد الاصطدام مع جيل أكبر سنا من المسلمين المهاجرين الذين لم يكونوا يرون خارج دائرتهم الضيقة، تكونت لدى أبنائهم المنعزلين قاعدة من الأدلة المعقولة والمقبولة. وقد كشفت العديد من الدراسات المسحية أن المسلمين الأصغر سنا – بغض النظر عن مستويات ممارساتهم للدين وتمسكهم بشعائره – كانوا أكثر تأييدا للأهداف الإسلامية الطوباوية من آبائهم، بينما أشارت تحليلات أكاديمية متنوعة إلى وجود بنية تحتية إسلامية بريطانية مؤسسية كانت تكافح من أجل أن تمثل مصالح هؤلاء الشباب وتحوز اهتمامهم.

وبمرور السنوات، بدت هذه السردية ضعيفة وغير قادرة على الصمود أمام تحليلات وسرديات أخرى. ويعد تبيان حالة الضعف الذي آلت إليه هذه السردية أحد الأسباب المهمة التي دفعت الكاتبين، لويس وحامد، إلى تقديم هذا الكتاب. فهؤلاء الذين كانوا صغارا ومثاليين في السنوات الأولى من هذه الألفية (تحديدا في الفترة بين الاضطرابات التي اجتاحت أولدهام وبيرنلي وبرادفورد في عام 2001 وتفجيرات لندن في 7 يوليو في عام 2005) أصبحوا الآن في أواسط أعمارهم. وجُل ما يقوم به الكتاب هو تبيان أن هذا الجيل الناضج يقوم الآن بإعادة صياغة البنى التحتية المؤسسية الإسلامية في بريطانيا التي تم انتقادها في السابق لأنها لا تعبر سوى عن آراء كهول وشيوخ مجتمع ذكوري محافظ بامتياز. وبالمثل، يبين الكتاب التحولات التي أضفاها هؤلاء الشباب على الحركات التي تستلهم الفكر الإسلاموي، وكانت تجذب الشباب في تسعينيات القرن الماضي.

متطرفون وليبراليون

من خلال هذه المادة، يحاول الكتاب دفع المفكرين والسياسيين البريطانيين إلى مراجعة تصوراتهم بشأن المؤسسات الإسلامية في المملكة المتحدة. ويبرز قضية تداعي هذه التصورات وتحولها إلى «تصورات مدمرة وماضوية لا تمت إلى الواقع بصلة» باعتبارها إحدى المشكلات الكبرى المتعلقة بالجدل العام والسياسي المثار بشأن الإسلام ووضعه في المجتمع البريطاني. فمن «الجمعية الإسلامية في بريطانيا» (Islamic Society of Britain) إلى «المؤسسة الإسلامية» (Islamic Foundation)، ومن «مسجد شرق لندن» (East London Mosque) إلى «الرابطة الإسلامية في بريطانيا» (Muslim Association of Britain)، يجد الكاتبان أنه «من الصعب تحديد منظمة إسلامية استمرت على المدى الطويل دون أن تعتري نظامها الأخلاقي وروحها التأسيسية بعض التغيرات الجذرية بشأن أغلب القضايا بدءا من العزلة المحافظة ووصولا إلى الإسلاموية الطوباوية المناهضة للاندماج الثقافي. رغم ذلك لم تستحوذ هذه التغيرات على أي قدر من الاهتمام العام ولم يسمح منتقدوها في أغلب الأحيان بوضع هذه التطورات في الحسبان».

ويعد «المجلس الإسلامي في بريطانيا» (Muslim Council of Britain) أحد أبرز الأمثلة على ذلك، حيث لا تزال الحكومة الحالية تتعامل مع المتحدثين باسم المجلس باعتبارهم أشخاصا غير مرغوب فيهم على أساس اختلافهم مع عدد من الوزراء في عام 2009، أو – وهو الأسوأ على الإطلاق– على أساس تصريحات أدلى بها مؤسسو المجلس قبل نحو 30 عاما. يحدث هذا برغم التباين الواضح في الأساليب والاستراتيجيات التي ينتهجها المركز حاليا، والتي يمكن ملاحظتها بسهولة حتى من قبل المراقبين الخارجيين. على سبيل المثال، يمكن مقارنة اعتراضات المجلس في نهاية العام الماضي على رفض رئيسة الوزراء السابقة تريزا ماي منح المسيحية الباكستانية المضطهدة، آسيا بيبي، حق اللجوء في بريطانيا برد الفعل العدائي الذي قام به المؤسسون ضد رواية «آيات شيطانية» (The Satanic Verses) للروائي البريطاني سلمان رشدي في عام 1989.  مثال آخر هو التوجه الواضح لدى المجلس مؤخرا لوضع الفنانين والنشطاء والأكاديميين الصاعدين في قلب أنشطته. لقد لاقت فكرة تمثيل «المجلس الإسلامي في بريطانيا» لمصالح كبار السن المحافظين أو الحركات الإسلامية دون غيرهما كثيرا من التهويل والتضخيم، أما الآن فقد أصبحت مجرد «وهم» يستمسك به تحالف مترهل من الصحافيين والسياسيين المتشددين، الذين أعادوا تصور ما هو بالأساس – على حد تعبير لويس وحامد – «نزاع عام وصاخب [بين جماعات مسلمة متنافسة] من أجل الحصول على السلطة التمثيلية والرعاية الحكومية والوصول إلى الدعم والموارد» كمعركة بين متطرفين وليبراليين على جوهر وروح الإسلام البريطاني. 

يمكنني أن أمضي أبعد من ذلك لأشدد على أن هذا الرفض للتحولات المؤسسية والمفاهيمية التي وقعت في داخل الإسلام البريطاني هو إحدى تجليات الإسلاموفوبيا في الخطاب العام البريطاني. وإن أحد الأسباب التي تجعلني مترددا بشأن جهود مركز بحوث «رونيميد» ومجموعات «APPG» في تعريف الإسلاموفوبيا كشكل من أشكال العنصرية هو أن كلمتي «عرق» (Race) و«مناهضة العنصرية» (Anti-racism) لم يتم استخدامهما بشكل جيد لفهم أو معالجة الصور النمطية الغابرة، مثل وصف طائفة الديوبندية بالانعزالية والمناهضة لبريطانيا، أو «مؤسسة قرطبة» بأنها واجهة لجماعة راديكالية متشددة. في هذا السياق، يشرع الكتاب في بناء مفردات أكثر دقة؛ فهو يؤكد على وجود حاجة ماسة إلى هؤلاء الذين يدرسون الإسلام البريطاني ليدافعوا بجلاء أكثر، وبلغة سياسية أعمق، عن فهم جديد ومتطور لما أصبح عليه الإسلام البريطاني اليوم فعليا.

رغم ذلك، لا يخلو الكتاب من بعض ملاحظات. مثلا إن الهدف الأساسى من الكتاب، كما يعبر عنه مؤلفاه، هو «تحدي ثنائية ’المسلمين الطيبين غير المسيسين‘ و’المسلمين السيئين المسيسين‘». لكن الكتاب نفسه يعيد إنتاج هذه الثنائية في استعراضه لخارطة المؤسسات الإسلامية وأطرها الفكرية. و نجد هذا بوضوح في الفصل الذي يتناول المؤسسات التعليمية الإسلامية، حيث يُبرز تناقضا واضحا بين المؤسسات الإصلاحية من جانب ومؤسسة «دار العلوم» التقليدية المحافظة من جانب آخر. كما يستخدم الكتاب مفردات تعبر عن حالة تشظي عام بين التقليدي والحديث يكون الأخير فيها دائما في الجانب الصحيح. يتجلى ذلك أكثر ما يتجلى في اللغة الإيجابية التي يستخدمها الكاتبان في الحديث عن دراسة المسلمين للفلسفة والثقافة الغربيتين، والأديان العالمية، ونظام أخلاقي أشمل للتفكير المستقل، بينما يصور الطقوس والتقاليد باعتبارها تحديات يجب التغلب عليها. ويمتدح أنشطة المسلمين وحراكهم مطالبا بحقوق أفضل وتمثيل أقوى داخل إطار ليبرالي، لكنه يترك القارئ يتساءل عن المساهمة الإيجابية التي يمكن أن يقدمها التقليد الإسلامي  في الحياة الديمقراطية البريطانية، إذا كان بإمكانه ذلك.

 

أحمد بركات

باحث و مترجم مصرى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock