منوعات

على خطى أفلاطون.. مدينة الفارابى الفاضلة التى قيّدت حرية «الإبداع»

راشمي روشان لال – كاتبة وباحثة في الفلسفة الإسلامية في جامعة إيست أنجليا البريطانية

عرض وترجمة: أحمد بركات

ربما لا يكون اسم «الفارابي»، الفيلسوف والمفكر الذي عاش في بغداد في القرن العاشر الميلادي، مألوفا لديك، لكنك بالتأكيد تعرف أعماله، أو – على أقل تقدير – تلمس نتائجها.

كان الفارابي صوفيا، بكل معنى الكلمة، زاهدا ومفكرا متعمقا، بدأ رحلته في دمشق كعامل في مزارع الكروم، قبل أن يستقر به المقام في بغداد التي كانت شاهدة على إنتاجه الفكري الغزير. في هذه الفترة، صاغ الفارابي فلسفته السياسية، واستفاد كثيرا من ذلك التنوع الثري الذي أتاحه له اطلاعه على الأفكار الهيلينية واليونانية القديمة، خاصة تلك التي قرأها في كتابات أفلاطون وأرسطو، ثم قام بتطويرها بما يتناسب مع مستجدات عصره.

كانت الأوضاع في الدولة العباسية التي عاش الفارابي تحت ظلالها تتطلب توازنا دقيقا بين الفكر المحافظ من جانب، والتغيير الراديكالي من جانب آخر. وفي مواجهة الخلل الوظيفي المتنامي الذي أصاب مفاصل الدولة، وحوّلها من دولة عظمى إلى مجرد صورة مصغرة ونموذج متقلص من سيرتها الأولى، نجح الفارابي في صياغة فلسفة سياسية تُفضي إلى تحقيق الفضيلة المدنية والعدالة والسعادة الإنسانية والنظام الاجتماعي.

لكن الإرث الحقيقي للفارابي ربما يتمثل في الأسس المنطقية والمبادئ الفلسفية التي أرساها لمراقبة التعبير الإبداعي داخل العالم الإسلامي، والهيمنة عليه. في هذا السياق، جاءت جهود الفارابي كاستكمال لمشروع «الأنكونيزم» (Aniconism) (رفض التمثيل المادي للعوالم الطبيعية والمتجاوزة للطبيعة)، والذي كان قد انطلق في نهاية القرن السابع الميلادي على يد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان. كان الخليفة عبد الملك قد خاض غمار هذا المشروع من خلال وضع صور غير تمثيلية على العملات، ونقوش خطية على قبة الصخرة في بيت المقدس، وهو ما اعتبره المؤرخون الفنيون بمثابة إعلان عن حالة فصام في العلاقة بين الفن الإسلامي من جانب والتراث التمثيلي اليوناني الروماني من جانب آخر.

وبعد قرون كثيرة، حمل الفارابي فكرة التقييد الإبداعي إلى آفاق جديدة لتشمل ميدان التمثيل بالكلمة. وفي هذا السياق، عوًل الفارابي بقوة على بعض الأفكار والمفاهيم الأفلاطونية، حتى أنه يمكننا القول بأنه ساعد في ترسيخ المنهجية التي يفهم بها الإسلام التعبير الإبداعي ويستجيب له.

اقر أ أيضا:

رؤية الفارابى للتابوهات التمثيلية

في تلك  الفترة، بات من الممكن اعتبار الكتابات التمثيلية عملا تدنيسيا بالقدر الذي تنتمي به إلى الفن التمثيلي، وفي عصرنا الحاضر، تتجلى بقوة عواقب عقلنة الفارابي للتابوهات (المحرمات) التمثيلية في الفن. ففي عام 1989، أصدر المرشد الإيراني الراحل آية الله الخميني فتوى ’شرعية‘ بقتل الروائي البريطاني سلمان رشدي على إثر نشره رواية The Satanic Verses (آيات شيطانية) في عام 1988. وكانت هذه الرواية قد أثارت غضب المسلمين بسبب مادتها التي حولت حياة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) إلى مادة روائية خيالية. وفي عام 2001، قامت حركة طالبان بتدمير تماثيل بوذا في مدينة باميان الأفغانية، والتي يعود تاريخها إلى القرن السادس الميلادي. وفي عام 2005، ثار جدل عنيف بشأن قيام صحيفة «يولاندس بوستن» الدنماركية بنشر رسوم كاريكاتورية تصور النبي محمد (صلى الله عليه وسلم).وقد ظلت هذه الرسوم تثير غضبا عارما في أوساط المسلمين بطريقة أو بأخرى لمدة عقد من الزمان على أقل تقدير، حيث غطت الاحتجاجات أغلب بلدان الشرق الأوسط، وشُنت الهجمات على السفارات الغربية بعد أن قامت العديد من الصحف الغربية بإعادة نشر تلك الرسوم. وفي عام 2015، تعرض مقر مجلة «شارلي إيبدو»، وهي مجلة باريسية ساخرة لم تتورع في أكثر من مناسبة عن إهانة مشاعر المسلمين، لهجوم مسلح أودى بحياة اثنى عشر من العاملين بها. وكانت المجلة قد عرضت رواية Submission (إذعان) (2015) للروائي الفرنسي ميشيل هوليبيك التي يطرح فيها رؤية مستقبلية لفرنسا تحت الحكم الإسلامي.

جدل الصور

ترتبط كل هذه الأحداث والحوادث السابقة فيما بينها برغبة عارمة في السيطرة على الفن التمثيلي، سواء كان بالصورة أو بالكلمة. وقد كانت مراقبة الكلمة وفرض قيود عليها في فكر الفارابي شرطا لا غنى عنه لضمان استمرار مشروع ’الكومنولث الإسلامي متعدد الإثنيات‘، تحت حكم الدولة العباسية (وهو المشروع الأهم والأعظم على الإطلاق). كان التمثيل التصويري في الإسلام قضية مستقرة ومحسومة إلى حد بعيد عندما كان الفارابي يفكر بعمق في بعض نظرياته الأساسية. فبعد ثلاثة عقود من وفاة النبي (صلى الله عليه وسلم) في عام 632 م، اتخذ الفن والتعبير الإبداعي مسارين متوازيين بحسب الهدف من كل منهما، حيث ظهر فن خاص بالفضاء العلماني، مثل القصور والحمامات العامة في العهد الأموي (661 – 750)، في مقابل فن آخر عُد ملائما للفضاء الديني (المساجد والأماكن المقدسة)، مثل قبة الصخرة، التي تم الانتهاء من بنائها في عام 691. كان الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان قد انخرط فعليا فيما أُطلق عليه «جدل الصور» على العملات المعدنية مع نظيره البيزنطي الإمبراطور جستنيان الثاني، وانتهى الأمر بإصدار الخليفة الأموي عملات حملت نقوشا («أمير المؤمنين» و«خليفة الله»)، بدلا من صوره كما حملت قبة الصخرة أيضا نقوشا مكتوبة بدلا من الصور الديكورية. وبات عدم وجود الصورة أشبه بأيقونة فنية، أو، بعبارة أدق، غدت الكلمة هي الصورة، وأصبح فن الخط أعظم الفنون الإسلامية على الإطلاق. كما تجلت أهمية الكلمة المكتوبة في استثمار العباسيين في حركة الترجمة من اليونانية إلى العربية في الفترة من القرن الثامن إلى القرن العاشر الميلاديين.

اقرأ أيضا:

كانت مراقبة التمثيل عبر الكلمة – إذن – هي العمل الأهم في الدولة الإسلامية في زمن الفارابي. وفي الوقت ذاته، نافح محبو الصور والأيقونات المسيحيون عن الصور الدينية بحجة أن الكلمة المكتوبة لها نفس القوة التمثيلية الكامنة في الصور؛ فالكلمات مثل الأيقونات، و«الصور هي كتابة الأميين»، كما أعلن القس المسيحي المتذوق للصور والرموز، ثاوذورس أبو قرة، الذي كان يعيش في دار الإسلام (مدينة حران، وهي إحدى مدن بلاد ما بين النهرين الكبرى) ومارس الكتابة باللغة العربية في القرن التاسع الميلادي.

اهتم الفارابي بقوة الكلمة وسلطانها النافذ، سواء بالإيجاب أو السلب، في وقت كانت توشك فيه شمس الدولة العباسية على الأفول. ففي ذلك الوقت، كان الخلفاء العباسيون يواجهون أزمة السلطة، سواء السياسية أو الأخلاقية، المتنامية على نحو متزايد. قاد هذا المناخ الفارابي، باعتباره أحد أهم الرموز الفكرية في العالم العربي، إلى أن يستخلص من قضايا عصره ومجتمعه التي عنًت له القضايا الكبرى التي تواجه الإسلام ودولته المتمددة والفسيفسائية.

صاغ الفارابي فلسفة سياسية قامت بتجسيد المدينة المثالية الخيالية التي نسجها أفلاطون «اليوتوبيا» للعالم الذي ينتمي إليه، حيث تطرق إلى مسالة القيادة، مذكرا القراء المسلمين بضرورة وجود ملك فيلسوف، أو ’حاكم فاضل‘ لترؤس ’مدينة فاضلة‘، تُدار وفقا لمباديء ’الدين الفاضل‘.وعلى غرار أفلاطون، يؤكد الفارابي ضرورة دعم التعبير الإبداعي للحاكم المثالي، وبالتالي المدينة الفاضلة والوضع القائم. ومثلما يطالب أفلاطون في كتابه Republic (الجمهورية) الشعراء في الدولة المثالية بأن يرووا قصصا عن الخير الذي لا يتحول ولا يتبدل، خاصة فيما يتعلق بالآلهة، فإن كتابات الفارابي تشير إلى قصائد وأناشيد وأغاني عن المدينة الفاضلة باعتبارها ’جديرة بالثناء‘. كما يشيد الفارابي بالكتابات التي تكون في خدمة الحاكم الأسمى والملك الفاضل‘ باعتبارها ’الأكثر قيمة وتبجيلا‘.

إن فكرة الكتابة التي تتبع السردية المعتمدة من قبل الدولة هي ما يربط بوضوح بين الفلسفة السياسية للفارابي وتلك الخاصة بالرجل الذي أطلق عليه الفارابي ’أفلاطون المقدس‘. لقد استفاد الفارابي من حجج أفلاطون في الدفاع عن ’الرقابة على الكُتًاب‘، ومن ثم الرقابة على الكلمة، باعتبارها خيرا عاما للمجتمع الإسلامي، وهو ما ترك أثرا عميقا على المرحلة التالية في بناء التصور الإسلامي. 

لقد تركت أفكار الفارابي، أو بعضها، على أقل تقدير، آثارا عميقة على مفكرين مسلمين بارزين آخرين، مثل العالم الموسوعي ابن سينا، والعالم الديني أبي حامد الغزالي. كما مكنت هذه ’العقلنة‘ لفرض قيود على الكتابة الإبداعية لحركة أكبر تنزع الشرعية انتزاعا عن تقديم أي تفسيرات جديدة. 

 

أحمد بركات

باحث و مترجم مصرى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock