منوعات

سرجيوس.. القمص الثائر

لا ينام الرجل ذليلًا خاضعًا، ثم يصحو فيجد نفسه كريمًا مقاومًا، الأبطال ليسوا أبناء ليلتهم، إنهم في طريقهم لذرى البطولة ينفقون أعمارهم في صد الشياطين التي تدعوهم إلى الراحة والاستسلام والرضى بالمتاح، ثم يقطعون شوطًا ليس أطول منه في السير حفاة على أشواك المقاومة، ثم ينتظرون ـ وقد بذلوا غاية جهدهم ـ مكافأة السماء. ستأتي المكافأة على أي صورة كانت، قد تأتي في صورة الصبر على الحرمان من لذائذ التمتع بالسير في القطيع.

البطل دائمًا ينفرد بموقف وبكلام ورأي، ولا يبالي بموافق ولا معارض، ثم هو لا يستسلم إلا وهو ينزلق إلى جوف قبره، وبعضهم لا يستسلم حتى وهو بداخل قبره.

من هؤلاء الأبطال القمص سرجيوس الذي غادر دنيانا في الخامس من شهر سبتمبر من العام 1964 ثم فرض نفسه على الاحتفالات بمئوية ثورة 1919 التي وهبها عمره. فالثورة وسرجيوس أخوان شقيقان من أم هى مصر، ومن أب هو الحلم بالحرية والعدل، والثورة وسرجيوس، بؤرة مضيئة في تاريخنا الحديث، على هديها نسير.

تقصي الجذور

في العام 1882 رُزقت أسرة تقيم بجرجا السوهاجية الصعيدية بطفل، كان عمر الطفل من عمر الاحتلال البغيض (فهل ثمة مفارقة؟). هذا الطفل سيصبح القمص سرجيوس خطيب ثورة المصريين، فماذا كان اسمه قبل التحاقه بالكنيسة؟.

بحثت كثيرًا فلم أجد إجابة، والعتب هنا على مواقع كنسية معتبرة تقول إنها تؤرخ لإعلام المسيحيين.

لم أجد كلمة واحدة عن أسرته ولا عن محيطه العائلي، ولا عن ثقافته ولا عن تعليمه، اللهم إلا تعليمه الكنسي.. فأين التوثيق لرجل خطير؟!.. وهل كان الرجل خطيرًا حقًا أم تراني أبالغ؟

المنصف هو الذي يقرأ الأبطال في سياقهم التاريخي، ووفق السياق التاريخي فقد كان القمص سرجيوس بطلًا من نوع نادر. كان قد تعلم، وما أدراك ما طلب العلم تحت الاحتلال، لقد كانت فرص التعليم أندر من الخل الوفي في الزمن النذل، والذين منحوا فرصة التعليم كانوا يسارعون إلى التمرغ في تراب الميري، وهذا حقهم الإنساني في الوصول إلى منطقة مريحة في حياة بائسة، أما عندما يأتي رجل ويركل كل تلك الفرص ويعلن أنه خصم للاحتلال حتى يرحل، فانظر أنت إليه هل هو بطل أم خانع؟

ولأن سرجيوس كان بطلًا فقد كان مصلحًا، والأمران متلازمان لا يفرق بينهما إلا جاحد، فكل مصلح هو بطل وكل بطل هو مصلح، وقد بدأ البطل بإصلاح أمر كنيسته العريقة فجاهر بأنه ضد كذا وكذا من أمور الكنيسة الداخلية، ولم يخف في الحق لوم لائم.

الكنيسة وكذا كل المؤسسات الدينية الاخرى كالأزهر، هى مؤسسات محافظة بطبيعة تكوينها وبطبيعة القائمين عليها، ومن هنا تأتي صعوبة المناداة بإصلاحها. ولا شك عندي في أن القمص كان يعرف عواقب المجاهرة بالإصلاح. ورغم معرفته بالعاقبة أو العقاب فقد سار لآخر الشوط، وكان من حسن حظنا أن الكاتب الكبير الراحل صلاح عيسى قد خلد تلك الواقعة في كتابة «هوامش على دفتر المقريزي» الذي أعادت دار الكرمة نشره قبل شهور.

يقول الأستاذ صلاح: «كان سرجيوس رجلًا جسورًا إلى حد التحدي، ويومًا في أكتوبر عام 1904 دعوه ليمثل أمام المحكمة في الدار البطريركية، فلما حضر أمام المجلس الإكليريكي سألوه عن تهمة ملفقة فأجابهم: «إني لم أبع ضميري بمثل ما تبيعونه وأنتم جلوس على هذه الكراسي».

وانتهى الأمر بإحالته إلى الاستيداع، وبعد عامين من دون عمل، ذهب ليقابل البطريرك فطرده من مكتبه، وخرج جائعًا ومفلسًا فعاد إلى مسقط رأسه جرجا، بنقود أقرضها إياه بعض أهل الخير، وما إن وصل حتى وجد دعوة من البابا كيرلس مقار بطريرك الكاثوليك يدعوه فيها لزيارته، واستقبله بطريرك الكاثوليك استقبالًا حارًّا. وقام أحد المطارنة يمتدح سرجيوس ومواهبه، ورد البطريرك قائلًا:

– لا يا نيافة المطران، إنه لا يستحق شيئًا من هذا المديح، لأنه يضيع مواهبه في كنيسة لا تقدره بل تحاربه، وكان أولى به أن ينضم إلى الكنيسة الكاثوليكية لتنتفع بمواهبه.

البابا كيرلس مقار

كان مشهد المقابلة بين سرجيوس وبين البطريرك الأرثوذكسي لم يغادر ذاكرته بعد، لكنه على الرغم من هذا رد قائلًا:

– يا صاحب الغبطة، رجل أحنته الأيام وأضعفته الشيخوخة، فإذا به يتوكأ على عصا، فجاء رجل واختطف منه العصا، ماذا تقول سيادتكم عنه؟

فقال البطريرك مقار:

– أقول إنه ظالم.

فقال القمص سرجيوس:

– لا أريدك أن تكون هذا الظالم.

وثارت كلمات حادة من الكاثوليك الذين كانوا يشهدون المناقشة لما أعتبروه تطاولًا من سرجيوس على مقام بطريركهم، لكن البطريرك طلب منهم أن يسكتوا لأنه يريد أن يسمع ما يقوله سرجيوس، وقال له:

– لماذا أكون ظالمًا عندما أدعوك للانضمام إلى الكنيسة الكاثوليكية؟

فرد سرجيوس:

– إن كنيستي القبطية قد هدّت الظروف والأحوال من قوتها، فكلما قام واحد من أبنائها ليأخذ بناصرها، وتوسمتم فيه أنتم أو البروتستانت خيرًا دعوتموه للانضمام إليكم، وكنيستكم غنية بالرجال، أقول هذا وقد طردني بطريكي بالأمس في حر الظهيرة وليس في جيبي مليم واحد..حط الصمت على الكل.. ودمعت عينا بطريرك الكاثوليك».

مسألة مبدأ

هل كان أحد سيعيب على سرجيوس لو ترك كنيسة ألقت به للعراء وذهب إلى كنيسة ستضعه على رأسها؟.. للحق ليس لأحد الخوض في رجل ينقذ نفسه من الضياع، ولكن للحق أيضًا، لو فعلها سرجيوس ما كان سيكون سرجيوس الذي نعرفه، أصحاب المبادئ لا يدافعون سوى عن مبادئهم هم، لا ينتظرون جزاءً ولا شكورًا.

ثم صفا الود بينه وبين كنيسته الوطنية فرُسّم قسًا على ملوي بالمنيا، ثم عُيِّن وكيلًا لمطرانية أسيوط في 30 أكتوبر سنة 1907. ثم سافر إلى السودان لكي يتولى منصب وكالة المطرانية بالخرطوم، وهكذا أصبح طريق الترقي في السلم الكنسي، بل وطريق الترقي في سلم الحياة بعمومها، مفتوحًا أمام سرجيوس المتعلم الموهوب، فكيف سيجني ثمار علمه وموهبته؟

الثورة دائمًا

الدنيا الآن مقبلة على سرجيوس الذي كان في ريعان شبابه، فلو غرف منها غرفة، فلن يهدم الكون يستطيع مصادقة القادة الإنجليز الذين بأيديهم مقاليد الحكم، ويستطيع تكوين ثروة طائلة من شعب الكنيسة، ويستطيع حشد الأنصار وشراء الذمم لكي يصعد إلى حيث يريد، ولكن المصلح هو المصلح سواء كان في القاهرة أو الخرطوم.

لقد بادر القمص الشاب بإصدار مجلة «المنارة المرقسية» وكان ذلك في سبتمبر من العام 1912. لم يكن هدف المجلة الوعظ والإرشاد، لقد جعل هدفها تأجيج نيران الثورة على المحتل.

 في إحدى افتتاحية المجلة كتب سيرجيوس: «إن هدف المجلة هو دعوة الأقباط والمسلمين إلى التضامن والتآخي وتقويم الاعوجاج الذي تأصل في الأقباط ككنيسة، والضرب على العادات التي أضلَّت الشعب وأفسدت ما ورثناه من الآباء القديسين».

رسالة المجلة جعلت الإنجليز يغضبون الغضب كله، فأمروا بإعادة القمص الشاب إلى مصر خلال أربع وعشرين ساعة. ذهب سرجيوس لمقابلة المدير المحتل وقال له: «إنني سواء أكنت في السودان أم في مصر فلن أكف عن النضال وإثارة الشعب ضدكم إلى أن تتحرر بلادي من وجودكم».

ساعة الحقيقة

كل ما سبق بدا وكأنه التدريب على الصبر عندما تأتي ساعة الحقيقة، وقد جاءت في مارس من العام 1919 عندما هب الشعب كله ساعيًا لطرد المحتل الغاصب.

الآن المواجهة شاملة،وأنصاف الحلول ليست مقبولة بحال من الأحوال، وإمساك العصا من منتصفها لا يليق برجل مثل سرجيوس، ولذا فقد تكور حتى أصبح كأنه نقطة تسري في عروق نيل الغضب.

كان الأزهر يقود المظاهرات وينظمها ويدعمها، فلجأ إليه القمص الشاب، الذي أقام إقامة شبة كاملة لمدة ثلاثة أشهر متصلة بداخل الأزهر، يعتلي منبره، ويخطب في الجماهير الغفيرة ليحرضها على النضال والكفاح.

في خطبة من خطبه قال سرجيوس: «أنا مصري أولًا ومصري ثانيًا ومصري ثالثًا، والوطن لا يعرف مسلمًا ولا قبطيًا، بل مجاهدين فقط دون تمييز بين عمامة بيضاء وعمامة سوداء».

وفي المرات النادرة التي كان يغادر فيها الأزهر، كان يغادره لكي يخطب في الميادين العامة، ومن ذلك أنه وقف مرة في ميدان الأوبرا يخطب في الجماهير المتزاحمة، وفي أثناء خطابه تقدم نحوه جندي إنجليزي شاهرًا مسدسه في وجهه، فهتف الجميع: «حاسب يا أبونا، حايموتك»، وفي هدوء أجاب سيرجيوس: «ومتى كنا نحن المصريين نخاف الموت؟ دعوه يُريق دمائي لتروي أرض وطني التي ارتوت بدماء آلاف الشهداء، دعوه يقتلني ليشهد العالم كيف يعتدي الإنجليز على رجال الدين». وأمام ثبات سرجيوس واستمراره في خطابه تراجع الجندي عن قتله.

تحالف صعيدي

ثم لا يظن أحد أن عبء الخطابة في جماهير محتشدة هينًا، وكان سرجيوس يعرف ما الخطابة وما دورها، ولذا سارع إلى تكوين ما يشبه الحلف مع شيخين من شيوخ الأزهر الأجلاء، وهما الشيخ مصطفى القياتي، المنياوي الأصل، والشيخ محمود أبو العيون المولود في أسيوط لأسرة تنتسب إلى آل البيت. من العجيب أن الثلاثة كانوا من الصعيد، وقد تناغموا حتى أصبحوا كأنهم لحن واحد يسري في بدن الأمة.

الشيخ مصطفى القياتي                                الشيخ محمود أبو العينين

لقد جعلوا الاحتلال يقف عاريًا أمام حججهم القوية القائمة على العلم والوطنية، وكان الثلاثة يتناوبون الخطابة حتى لا يمر يوم إلا وقد أشعلوا النار تحت أقدام المحتل.

ضاق المحتل الغاصب بهم، لكنه تجنب فكرة قتلهم لأنها ستجلب عليه نقمة لن يستطيع مواجهتها، كما تجنب فكرة سجنهم، فقرر نفيهم داخل الوطن، إلى رفح بسيناء، وهي منطقة كان بينها وبين القاهرة سفر بعيد بمعايير ذلك الزمان، فنحن نتحدث هنا عن قبل مئة عام من عامنا هذا.

الآن لا جماهير ولا خطابة، فماذا سيصنع الفرسان الثلاثة؟.. قال سرجيوس لصاحبيه: من منفانا نستطيع مواصلة الثورة. راح سرجيوس يكتب خطابات ملتهبة ويرسل بها إلى عميد الاحتلال في القاهرة، في كل يوم يكتب خطابًا ويرسل به إلى اللورد كرومر، حتى ضاق كرومر بتلك السيول من الخطابات، فقرر إعادة الثلاثة إلى القاهرة.

اللورد كرومر

في البدء كان الوطن

عاش سرجيوس حتى رأى بعينيه خروج المحتل من بلاده، ثم رأى علم جمهورية مصر العربية يرفرف عاليًا خفاقًا، شاهد بعينيه النبتة التي غرسها في تربة الوطن وهى تكبر وتصبح شجرة عملاقة تظلل السائرين على طريق الحق.

 ولأن هذا الوطن «فرّاز» يعرف ساعة الجد كيف ينتقي الرجال، فعندما جاء اليقين وصعدت روح سرجيوس إلى بارئها، جاء الشعب ليكون في وداع أحد أولاده البررة. الطبيعي أن الجثمان تحمله سيارة، لكن الشعب قرر أن يحمل نعش سرجيوس على الأعناق، كما كان يحمله في زمن الثورة.. فهل ثمة مكافأة أعظم من هذه؟.. إنها مكافأة الوطن لرجل أخلص في حبه وأفنى عمره في الدفاع عنه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock