منوعات

الحسن الوزّان… رحّالة مسلم في بلاط بابا روما

غرناطة/ الأندلس.. «شاءت الأقدار أن أعيش صفاءها وعذوبة مائها عشرة سنوات قبل إنتهاء الحكم الإسلامي فيها، كل شىء فيها ظل منقوشا في ذاكرتي، وإن جلى جسدي كل الأمصار فالروح ظلت هناك بغرناطة».

ولد محمد بن الحسن الوزّان بمدينة غرناطة في سنة 839 هـ (1488م) في غمار حروب الاسترداد الصليبية لبلاد الأندلس، وإجلاء المسلمين عن حكمها بعد عدة قرون. فعانى مع أسرته خطر القتل والاضطهاد، ولم يدر في خلده أنه سيصبح ذات يوم صفي بابا روما وإشبينه.

 بدأ الغرب المسيحي حروب استعادة الأندلس من يد المسلمين منذ منتصف القرن الثالث عشر، واستمرت تلك الحروب حتى نهاية القرن الخامس عشر، فقد خلالها  ملوك الطوائف قرطبة عام 1236م، ثم فالنسيا، وانتشر المبشرون ينشرون المسيحية بين عائلات الأسر المسلمة. ولمّا سقطت غرناطة في أيدي الملكيْن الكاثوليكييْن فرديناند وإيزابيلا بداية عام 1492م كان ذلك  إيذانا بانتهاء حكم دولة  المسلمين في الأندلس. غادرت الآلاف الأسر والعوائل المسلمة إلى الضفة الأخرى من المتوسط مخلفين أموالهم وثرواتهم، أما من بقي فقد نُّصّر اضطرارا وسُلب ماله، وعانى أبشع ألوان الاضطهاد، ولم يكن الوالد الحسن الوزّان (الشهير بالزيات) التاجر الثري ليدع ولده الوحيد وزوجتيه عٌرضة للتنصير والاضطهاد ،فاصطحب أسرته إلى بلاد المغرب العربي ليبدأ حياته من جديد، فاستقرت الأسرة بمدينة فاس العريقة بأسواقها وحوانيتها ومبانيها الفاخرة.

من فاس إلى تمبكتو

كانت فاس العامرة لاتزال تحتفظ بقبس من سمعتها العلمية القديمة أيام بني مُرين. وفيها أنفق الطفل مٌحمد بن الحسن سنوات عمره الأولى بها في دراسة النحو والشعر والأدب والتاريخ والفلسفة والشريعة، وحفظ القرآن من الغلاف إلى الغلاف – كما ذكر-. وقد روى لنا في بعض المناسبات أنه كان من بين الكتب التي درسها كتاب (عقائد النسفيّ)

عاش محمد مع أسرته في سعة ورغد، سعيداً في تلك العزلة المشجعة على الدرس، واصفا ذلك بقوله: «بطبيعة الوسط الذي نشأت فيه كنت مهيئا لأن أكون أديبا عالما سياسيا مهذبا بالطبع، كما كان للقرويين الأثر في قلبي.. هنا منابع العلم الفياض لرجالات وصل صيتهم الأندلس غدا سأجدني بينهم أشرب من معينهم».

 اشتغل مٌحمد بن الحسن الوزان في حداثته كمعظم طلبة ذلك العصر بالتوثيق في مارستان فاس، بأجر قدره ثلاثة دنانير في الشهر، وتنقل في صحبة والده الذي صار من خلصاء السلطان محمد سلطان فاس، يجمع أموال الضرائب من البلدان، ثم كانت رحلته الكبرى إلى أواسط أفريقية، برفقة عمه إلى تمبكتو (في مالي)، وذلك في سنة 910 هـ (1504م) وهو فتى في السابعة عشرة من عمره. كانت رحلته طويلة مشعّبة في صحبة القوافل، وقـُدّر للحسن أن يشهد خلالها سائر ممالك إفريقيا الوسطى وحوض نهر النيجر، وأن يدرس جغرافيتها وأحوالها دراسة حسنة، وكانت تمبكتو يومئذ في أزهى عصورها، وكانت قاعدة لمملكة كبيرة قوية، تحت حكم أسرة (سونجاهي). وقد أتيح للحسن أن يخترق في تلك الرحلة سائر ممالك السودان الواقعة في تلك المنطقة، وعددها خمس عشرة مملكة، متجهاً إلى تمبكتو نحو الشرق، ثم بعد ذلك نحو الجنوب، وقد لخّص لنا أحوال حكامها وشعوبها في تلك العبارة: «إن حكام هذه الممالك وسكانها على قدر كبير من الثراء والنشاط وهم يشغفون بإقامة العدالة، ولو أن منهم طوائف تحيا نوعا من الحياة الهمجية».

 في تلك الرحلة سجّل محمد بن الحسن الوزان العديد من طبائع مجتمعات وشعوب البلدان التي مر بها في رحلته من (فاس) إلى (تمبكتو) ومكث بها خمسة أشهر برفقة عمه الذي وافته المنية أثناء رحلة العودة، ليجد نفسه مٌكلفا بقيادة القافلة في رحلة العودة، وبأن يفضي إلى مولاه  السلطان محمد، بما شاهد وعاين في تلك الرحلة، وبعد لقائه بالسلطان في اليوم التالي لوصوله رغم الحزن الذي ألم بأسرته، فقد أعجب به السلطان وسرعان ما ضمه إلى عمال دولته، ليكون واحدا من سفرائه إلى العديد من البلدان لاسيما تمبكتو- القريبة من بلاد السودان، فاكتسب خبرة الرحالة من كثرة التجوال، وسجل الكثير من ملاحظاته التي سيدونها فيما بعد في كتابه «وصف افريقيا».

رحلات ومشاهدات

في الأعوام التالية شهد مٌحمد كثيرا من الأحداث الهامة التي وقعت يومئذ بالمغرب، وهي الفترة التي اشتد فيها اعتداء البرتغاليين على الشواطئ والثغور المغربية الغربية، ونهض المغرب فيها ليدفع عدوان المغيرين بكل ما وسع، ويشهر عليهم حرب جهاد شعواء. ففي سنة 1508م كان الحسن في خدمة مولاي محمد سلطان فاس، عندما سار بحملته لإنقاذ ثغر أصيلا على البحر المتوسط، والذي استولى عليه البرتغاليون، وقد كاد المغاربة أن يستعيدوا هذا الثغر لولا أن تداركته نجدة قوية بعث بها ملك قشتالة إلى البرتغاليين. وفي سنة 1512م سار الحسن في ركب مولاي محمد مرة أخرى، في حملته التي قادها على الأعراب الذين كانوا يعيثون فسادا في سهول مملكته، ويعتدون على السكان الآمنين.

لكن الأهم هو ما قام به الوزان من رحلات هامة إلى شمال أفريقيا، وفي قسطنطينية، ومصر وبلاد العرب وبلاد أرمينية وشمال فارس. وتتعدد أسباب إقدام الوزان على تلك الرحلات، فقد كان بعضها ضمن قوافل تجارية، غير أن بعضها الآخر كان إشباعا لشغفه بالكشف والدراسة، وليس أدل على ذلك مما تركه لنا من أوصاف مستفيضة دقيقة للبلدان والمدن والقفار الإفريقية التي مر بها، على نحو ينم عن كثير من الشغف بالدرس والتدوين.

ليون الأفريقى

كانت الرحلة الأخيرة والأهم هي رحلة الوزّان الثانية من فاس إلى القسطنطينية، وقد عاد من تلك الرحلة بطريق الشام ومصر ثم ركب البحر من الإسكندرية إلى المغرب. وهنا وقع الحدث الذي غيّر حياة الحسن، حين اختطفه بعض القراصنة الإيطاليين  وأخذوه معهم أسيرا  ضمن من أخذوا إلى أوروبا.

في تلك الفترة كانت مياه هذا القسم من البحر المتوسط مسرحاً لمغامرات الأخوين باربروسا خير الدين وأخيه، ومغامرات خصومه من القراصنة النصارى، وكان وقوع الركاب الآمنين من أسرى في أيدي القراصنة من الجانبين من الحوادث العادية التي يكثر وقوعها، وكذلك كان افتداء الأسرى أمرا اعتياديا. لكن القراصنة أدركوا أن مَنْ بين أيديهم أسير غير عادى، ومن ثم قرروا حمله إلى روما وإهداءه إلى البابا ليون العاشر. ويرجح أن تكون الواقعة قد كانت ما بين عامي م1519 إلى 1520م.

 ظل الوزان حبيسا لبعض الوقت ينتظر مصيره مكبلا بالأصفاد، وهو الذي صافح الملوك والسلاطين والأمراء، يشعر بأن ثمة ما يخطط ويدبر له في أروقة كنيسة القديس بطرس، لاسيما بعدما تغيرت معاملة الحراس والكرادلة له، ثم أحضر إلى لقاء البابا الذي سأله عن هويته فحكى له الوزّان كل شىء من أسفاره ورحلاته ومشاهداته. وجد فيه البابا تحقيقا لبعض مآربه، فعقد معه صفقة بأن أوكله به إلى أربعة من كهنته يعلمه أحدهم اللاتينية، وآخر تعاليم الديانة المسيحية، وثالث يعلمه التركية، ورابع يعلمه الإنجيل واللغة العبرية، في المقابل سيعلم الوزّان سبعة طلاب اللغة العربية.

أنِس البابا الألمعي في عبده الجديد طرازاً آخر، وأدرك قيمته العلمية الخاصة فبادر بعتقه، وشمله بعطفه ورعايته، وقرر له معاشاً سخياً حتى لا يفكر في الهرب، وانتهى هذا العطف إلى النتيجة الطبيعية، وهي إقدام البابا على تعميد الوزان. وفي السادس من كانون الثاني يناير عام 1520 عٌمد محمد بن الحسن الوزان، وحضر البابا حفلة تنصيره إشبينا له، وأطلق عليه أسمه (جيوفاني ليوني ميديتشي) وبذلك نسبة البابا إلى نفسه.

وهكذا غدا الحسن بن الوزّان (جيوفاني ليوني) أو (يوحنا ليون الأفريقي)، وهو الإسم الذي عرف به فيما بعد منذ أن ظهر مؤلفه الشهير في (وصف أفريقيا). وخاض ليون في روما حياة علمية، وتعلم الإيطالية واللاتينية، وقام بتدريس اللغة العربية لعدد من العلماء ورجال الدين، وكان من بين تلامذه الكاردينال جيدو انتونيني، وكان البابا ليون العاشر من حُماة العلوم والآداب، فشجع الجو العلمي، الذي ميز البلاط البابوي في تلك الفترة، ليون على الاضطلاع بعدد من المشاريع العلمية، التي تتجلى فيها معارفه المشرقية والكشفية الواسعة. ولكن صديقه وحاميه البابا ما لبث أن توفي في ديسمبر (1521)

وكانت هذه بلا ريب ضربة شعرَ ليون بوطأتها. بيد أنه استمر مقيما في روما، مثابراً على دراسته. وكان يزور من آن لآخر بعض المدن الإيطالية الشمالية، ولا سيما بولونيا التي زارها مرارا، يعيش وحيداً في عزلته منقطعاً إلى أعماله العلمية، ودروسه العربية، ولم يُعرف أنه تزوج، أو كانت له صلة معروفة بالنساء في ذلك العصر الذي كانت فيه الحياة المرحة، شعار الحياة في روما. وأسفر نشاط ليون العلمي عن وضعه لعدة مصنفات قيمة، كان أهمها وأشهرها مؤلفه الضخم في (وصف أفريقيا).

عاش الحسن الوزان (ليون الافريقي) عمرا طويلا في معقل المسيحية الأوروربية وعلى مقربة من مقر عمقها الديني ممثلا في البابوية، وليس هناك ما يؤكد ما إذا كان قد عاد إلى موطنه بإفريقيا أم لا، وإن كان البعض يؤكد عودته إلى تونس عام 1550م، أي بعد ثلاثين عاما قضاها في روما ومدن إيطاليا، وبعد 29 عاما من وفاة البابا ليون العاشر، وهو ما يدفعنا للتشكيك في رحلة العودة.

وسواء صحت عودته أم لا، فإن ما تركه لنا من مؤلفات استند فيها على خبراته في نقل ما رأته عيناه وخطته يداه من مشاهدات وعلوم ومعارف، يجعل من الرحّالة  الحسن الوزّان أو ليون الأفريقي أحد أهم المؤرخين والجغرافيين والرحالة العرب وصاحب الحياة الأكثر دراماتيكية وصخبا وتشويقا، وصاحب أول خريطة للقارة السمراء، وأحد مؤسسي علم الجغرافيا.

 

بلال مؤمن

كاتب و محرر مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock