منوعات

فى رحاب «السلطان الحنفي».. نبوءات وكرامات وسياحات روحانية

«مدد يا حنفي، مدد»… عمار بيني وبين السلطان الحنفي…. لم أجد غير هذه الكلمات، كمدخل للكتابة عن شخصيته ومسجده، فمنذ طفولتي، كان يصحبني «جدي محمود- والد أمي» -وكان كفيفًا رحمه الله- إلى هذا المسجد البديع، لأداء صلاة الجمعة، «شالله يا حنفي»، عبارة كانت تتردد  على لسان جدي، كلما سرنا واتجهنا عبر حواري ضيقة، قادميْن من شارع مجلس الأمة، مخترقيْن حارة «أبو طبق» حتى نصل لبدايات منطقة الناصرية، والتي بها مسجد «السلطان الحنفي» بساحته الكبري وتقسيماته الهندسية البديعة، وصحنه المتسع في بهاء وعظمة، والضريحين اللذين يتجاوران بداخله، مقام «السلطان الحنفي» على اليمين، ومقام زوج ابنته «الشيخ عمر الركن» على اليسار.

ضريح الشيخ الحفني

نزهة روحية

في صحن المسجد، وبجوار ضريحه البديع، كنت شاهدا على تلك الأجواء الروحانية في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي.. كنت أنا وجدي نذهب لصلاة الجمعة مبكرًا، ونظل جالسيْن بجوار الضريح إلى ميعاد الصلاة، كان الجميع يقرأون  سورة الكهف، والبعض كان يقوم بترتيل القرآن ويردد خلفه الباقون، حتى إقامة الصلاة. وبعد قضاء الصلاة نعود لنجلس بجوار الضريح، حيث يزدحم المسجد بكثير من الزوارفي قاعة الضريح. أذكر أن سيدة عجوزا كانت تأتى أسبوعيا في ملابس ريفية، ومعها موقد، تقوم بإشعاله ووضع براد به مشروب القرفة، و تقدم لنا ولكل من يمر بجوار الضريح أكواب القرفة بالمجان، وخلال الفترة من انتهاء صلاة الجمعة حتى أذان العصر، كنت أجد من يضع في يدى أو حجر جلبابى، رغيف خبز ممتلئا بالأرز واللحم، أو يقدم لى «سلطانية فخارية» بها أرز باللبن، ولا يستطيع أحد أن يرد أو يرفض ذلك الطعام، غنيا كان أو فقيرا.

كنا نظل جالسين بجوار المقام، نقرأ القرآن فرادي أو جماعات، إلى أن يأتي ميعاد صلاة العصر، فننهض لأدائها، لتبدأ بعدها الحضرة، وهي ابتهالات صوفيه شجية، مع نغمات وآهات وترتيل بديعٍ يمتد حتى صلاة المغرب.

وسط هذه الطقوس، وبجوار مقام السلطان الحنفي نشأت، وظللت أتذكره دائما – رغم ابتعادي عن المكان، خاصة بعد زلزال عام 1992، حيث هُدم بيت جدي، وبالتالي لم أعد أزور المنطقة ولا المسجد- لكني اتذكر أن هذا الزلزال الشهير الذي ضرب مصر تسبب في سقوط مأذنة المسجد التاريخية. لكن بقى «مسجد السلطان الحنفي»، بذكرياته، يناوش ذاكرتي، وعندما قمت بزيارته مؤخرًا في صلاة الفجر، فوجئت بأن كثيرا من الطقوس قد تغيرت أو تلاشت، فمثلا الحضرة الأسبوعية أصبحت تقام كل ثلاثة أشهر، لكن يظل المكان قبلة لكل الزوار وطلاب الأزهر من شرق آسيا، خاصة بعد صلاة الجمعة.

لمحة تاريخية

أسماء كثيرة تطلق على تلك المنطقة، التي يقع بها المسجد، فهذا الحي العتيق، بحاراته، وطرقه، له أسماء عديدة مثل: سوق الإثنين، منطقة «الناصرية» نسبة إلى السلطان الناصر قلاوون، فقد كانت تلك المنطقة عبارة عن بركة أو بحيرة بديعة ذات يوم، عليها «قنطرة سنقر»، وهي من أشهر القناطر التي أقيمت على الخليج الناصري، وكان تُسمي أيضًا «درب النور»، لكثرة الأولياء بتلك المنطقة، كما عرفت كذلك باسم (درب أبو لحاف) لوجود العديد من (المنجدين) والعاملين بتجارة القطن بها.

وكانت الحارة المتعرجة التي يقع بها مسجد السلطان الحنفي تسمي «حارة قوارير». وكانت تنتهي بسوق للعلافة، واليوم أصبحت تسمى باسم «الحنفي».

أما صاحب المقام فهو الشيخ «شمس الدين محمد الحنفى» الملقب بـ«السلطان»، ولُقب بـ«السلطان» لأن الله رزقه من فضله ما جعل له رأيًا نافذًا لدى السلاطين، ولُقب بـ«الحنفي» لسيره على هَدْي الإمام «أبي حنيفة النعمان».

وُلد «الحنفي» سنة 775 هـ يتيم الأب وماتت أمه بعد ولادته مباشرة فأصبح يتيم الأب والأم وهو طفل رضيع، وهو ينتسب إلى سيدنا «أبو بكر الصديق» رضى الله، وتوفي سنة 847 هـ، عن 72 عامًا ودُفن في هذا المسجد العتيق، والبديع. وقد حفظ القرآن في الكُتاب، قبل أن يبيع الكتب في السوق.

 يروى أنه ذات يوم مر به رجل فقال له: «ما للدنيا خُلقت»، فدخل الخلوة تحت الأرض وهو ابن الرابعة عشرة، وظل في خلوته سبعة أعوام، ولم يخرج منها حتى سمع هاتفا يقول: «يا محمد اخرج انفع الناس»، فخرج إلى الزاوية حيث كان يجلس يعظ الناس على غير موعد، فيجىء إليه الناس حتى يملأوا زاويته وذاعت شهرته.

نبوءة

و يقال أنه قبل ميلاد «السلطان الحنفي»، كانت هناك نبوءة بمجيئه، حيث يُذكر نقلا عن «ابن عطاء الله السكندرى»، عن أبى العباس المرسى عن القطب الصوفى الكبير أبى الحسن الشاذلى أنه كان يقول: «سيظهر بمصر رجل يعرف بـ«محمد الحنفى»، يكون فاتحاً لهذا البيت، ويشتهر في زمانه ويكون له شأن عظيم»، وفى رواية أخرى: «يظهر بمصر شاب يعرف بالشاب التائب، حنفى المذهب، اسمه محمد وعلى خده الأيمن خال، وهو أبيض اللون مشرب بحمرة وفى عينيه حور، ويُربَى يتيماً فقيراً».

وقد أخذ «الحنفي» الطريق بعد أن خرج من الخلوة عن الشيخ ناصر الدين بن الميلق عن جده شهاب الدين بن الميلق عن ياقوت العرش عن المرسى عن الشاذلى رضى الله عنه، لذا كان الشاذلي يقول: «الحنفى خامس خليفة من بعدى».

تاريخ المسجد

كان الشيخ «شمس الدين محمد الحنفي» يقوم بإلقاء الدروس والعظات الدينية فى مسجده، الذي كان في البداية مجرد زاوية، وقد كان الفقراء يجدون فيه المأوي والطعام، وتخرّج  في هذا المسجد مئات الدعاة والمريدين.

 في نفس مكان المسجد الحالي كان يقيم الشيخ «الحنفي في خلوة»، قام ببنائها له نقيبه أبو العباس، ثم تم بناء زاوية في نفس المكان في فترة لاحقة، وفي سنة 817 هـ /1414مـ تحولت الزاوية إلى مسجد.

وفي عهد محمد علي باشا (1805 م 1848 م)، تم تجديد المسجد بمعرفة الأمير سليمان أفندي عام 1237ه /1821م. أما المسجد بشكله الحالي فقد أعاد بناءه الخديوي عباس حلمي الثاني، وتم الإنتهاء من بنائه عام 1333ه /1914 م، وقد صمم المسجد محمود فهمي بك مهندس وزارة الأوقاف، و قام بتشييده المهندس أحمد عزمي بك.

 

تحفة معمارية

يعد مسجد «السلطان الحنفى» تحفة معمارية رائعة، ويمثل فترة هامة فى تاريخ العمارة المصرية في عهد أسرة محمد على باشا.

في نهاية ساحة المسجد، وأمام القبلة مباشرة، يوجد دكة المُبلّغ، المزخرفة بزخاف هندسية بديعة، ويُصعد إليها بسلم حجري، وكان الغرض منها أن يصعد أعلاها المُبلّغ، وهو الشخص الذى يقوم بترديد ما يقوله إمام المسجد أثناء الصلاة الجامعة، لكي يسمعه باقي المصلين في الجهة المقابلة، وذلك قبل ظهور مكبرات الصوت.

 والمنبر فمصنوع من الخشب وعليه زخارف هندسية وكتابية، وأهم ما يميز هذا المنبر وجود نص كتابي يتضمن اسم المنشئ وهو خديو مصر «عباس حلمي الثاني». أما مئذنة  المسجد فهي على طراز المآذن المملوكية التي تتميز بالشرفات المحمولة على صفوف من المقرنصات،

 سيظل مسجد «السلطان الحنفي» تحفة معمارية، بينما  تبقى حكاية «السلطان الحنفي» ذاته، مثار دهشة وجدل وعشق لهذه الشخصية المباركة، فهو كما يقال عنه «تاريخ عريق، وماء لا ينقطع، وبركات لا تحصي»، وكما كُتب على باب ضريحه:

يا نسل صديق النبى من انتمى.. لك لا يضام ودام فى عيش رغد

لا سيما من زار روضك قائلا.. يا شمس دين الله يا حنفى مدد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock