منوعات

فى عيده.. الفلاح المصري «المظلوم» على شاشة السينما

«مين اللى محنيلك خضار … الفلاحين غلابة» هكذا وصف عبد الرحيم منصور حال الفلاح وهو يحكى الحدوتة المصرية الشهيرة بصوت محمد منير.

ورغم أن الريف يمثل النسبة الأكبر فى التكوين المجتمعى بالمقارنة بالحضر فى الديمغرافيا المصرية، حيث يمثل أهل الريف 58% تقريبا من سكان مصر، إلا أن السينما التى يمتد عمرها لأكثر من 100عام لم تنصف الفلاح ولم تعطه حقه. فقد قدمت عددا قليلا من الأفلام التى تتناول المجتمع الريفى، لا تليق بمكانة الفلاح وقدر عطائه بالمقارنة بأنماط وفئات اجتماعية أقل تأثيرا وثراء أفردت لها، في المقابل، مساحات أكبر بكثير مما منحته للفلاح.

صورة نمطية

ربما يعود سبب هذا الإهمال السينمائى للريف إلى عدم إدراك معظم صناع السينما لحياة الفلاح وطبيعة القرية من جهة، ومن جهة أخرى إلى عدم انحيازهم بالأساس لبذل جهد لتقديم صورة صادقة ومعبرة عن الفلاحين. ولذلك فقد ظلت صورة  الفلاح على الشاشة الفضية أسيرة لأنماط تقليدية فى معظم الأحوال ما بين المقهور والمُستعبَد الأجير الذى يرضخ للظلم حينا، وبين الساذج اللاهث خلف أضواء تبهره فى المدينة حينا آخر.

ومثلما يخفت تدريجيا بريق الاحتفال بعيد الفلاح فى 9 سبتمبر – وهو اليوم الموافق لصدور أول قانون للاصلاح الزراعى في مصر 1952 عقب ثورة يوليو باشهر قليلة – يخفت أيضا تناول السينما للفلاح والقرية المصرية فى التركيبة المصرية تاريخيا وحتى الآن.

قدمت السينما المصرية أعمالا بعضها جعل من القرية مسرحا للأحداث، وبعضها الآخر انشغل بالفلاح الذى سحرته المدينة وأضواؤها. لكن فى معظم هذه الأعمال لم يشتبك صناع السينما مع وضع الفلاح المصري وهمومه، وتركيبته النفسية والاجتماعية. بل إن بعضهم جعل منه مادة للسخرية، فركزوا على ذلك القروى الساذج (العبيط)، أو المقهور على الدوام.

لكن يظل كل من صلاح أبو سيف فى «الزوجة الثانية» ويوسف شاهين فى «ابن النيل» و «الأرض» و«المواطن مصري»، ومؤخرا «مجدى أحمد على» فى «عصافير النيل» هم أكثر المخرجين تفاعلا مع القرية المصرية ومشاكل الفلاح بشكل به كثير من العمق في التناول والدقة والحرفية، وهو ما مكنهم من تقديم أعمال عن القرية والفلاحين المصريين، بعيدا عن ذلك النموذج الكاريكاتيرى الذى تميزت به سينما المقاولات فى نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات من القرن الماضي.

وكان المخرج «محمد كريم» هو أول من تعرض للريف المصرى فى فيلم «زينب» 1930 المأخوذ عن رواية بنفس الاسم للأديب محمد حسين هيكل، والذى يتعرض لحياة فتاة ريفية أرغمتها العادات والتقاليد الريفية على الزواج من شخص رغم وقوعها فى حب شخص آخر.. وبعده توالت الأعمال التى تتناول الريف والفلاح برؤى مختلفة.

ففى عام 1947 قدّم الكاتب بديع خيرى والمخرج توجو مزراحى «ليلى بنت الريف» من بطولة ليلى مراد، ويتناول  قصة فتاة ريفية تنتقل الى المدينة وتصطدم بالعادات والتقاليد المختلفة.

ومع ذلك فقد ظلت السينما بعيدة عن الغوص فى عمق الريف وحياته ومشاكله حتى عام 1951، حين قدم «يوسف شاهين» فيلم «ابن النيل» بطولة شكرى سرحان وفاتن حمامة، والذى تناول حكاية فلاح يتمرد على حياة القرية لما تمثله من قهر بسبب تقاليد لا يقبل الكثير منها، فيهرب إلى المدينة التي لم يستطع العيش فيها أيضا لظروف وأسباب مختلفة، فيعود مرة أخرى إلى قريته.

ويمثل «ابن النيل» أول الأعمال التى تقترب من حياة القرية وتتفاعل مع الشخصية الريفية بشكل يتسم بالعمق الى حد كبير.

ثورة يوليو تنصف الفلاح

ثم جاءت ثورة يوليو 1952 لتولى اهتماما كبيرا بالفلاح و بالقرية المصرية، وكان قانون الإصلاح الزراعى أول الخطوات التى كشفت عن هذا الانحياز الكبير للفلاح باعتباره مكونا أساسيا للعملية الانتاجية وصاحب الحق فى ملكية الأرض التى أفنى عمره فى زراعتها وصانع الحضارة المصرية بامتياز. كما  عملت ثورة يوليو على رد اعتباره بعد سنوات طويلة من الظلم وسلب الحقوق الذى عانى منه الفلاح المصري طوال سنوات الحكم الملكى، فأنشأت المدارس والوحدات الصحية والجمعيات الزراعية فى معظم قرى وريف مصر.

وقد كانت السينما إحدى أدوات التوجه الجديد للدولة للتعبير عن قيمة الفلاح ومنحه بعضا من حقوقه، خاصة مع انشاء المؤسسة العامة للسينما، وهى المؤسسة الرسمية التى تولت الانتاج السينمائى خلال حكم ثورة يوليو.

 وفى عام 1959 قدم المخرج «هنرى بركات» فيلم «دعاء الكروان» عن رواية طه حسين بطولة أحمد مظهر وفاتن حمامة ويتناول الفيلم مسألة شائكة جدا وهى الشرف لدى الفتاة الريفية وكيف تدفع ثمنا يصل الى فقدان حياتها إذا فرطت أو أُجبرت حتى على التفريط فيه. وقد نجح هنرى بركات فى الاقتراب من البؤس والفقر والعوز الذى كانت تعيشه القرية المصرية قبل 52.

وفى عام 1967 يقدم «صلاح أبو سيف» إحدى روائع السينما واحدا من أهم أفلامه وهو فيلم «الزوجة الثانية» بطولة سعاد حسنى وشكرى سرحان وصلاح منصور، حيث يشتبك الفيلم مع عدد كبير من الاشكاليات التى كانت تعيشها القرية ومنها سلطة الحاكم «العمدة» والتى تصل الى ذروتها فى اجبار فلاح معدم على تطليق زوجته لكى يتزوجها العمدة بحثا عن الإنجاب. كما يرصد الفيلم سلطة رجال الدين داخل القرية وتوظيف النصوص المقدسة لصالح الحاكم أو صاحب النفوذ. ورغم رصد أبو سيف لقسوة الوضع الذى يعيشه الفلاح المُعدم الا أنه ينتصر له فى النهاية.

وفى عام 1968 يقدم حسين كمال رواية يحيى حقى البوسطجى بطوله شكري سرحان، وزيزي مصطفي وصلاح منصور والذى يكشف تناقضات المجتمع الريفى من خلال شخصية البوسطجى الذى يتجسس على أسرار أهل القرية من خلال رسائلهم وذلك رغم ما يظهرونه من قسوة وخشونة

وفى عام 1969 عرض فيلم «شىء من الخوف» المأخوذ عن قصة ثروت أباظة وأخرجه «حسين كمال» وبطولة محمود مرسى وشادية، وقد اثار الفيلم جدلا واسعا بلغ حد قيام الرقابة بمنع عرضه بدعوى ان صناعه يرمزون للرئيس عبد الناصر من خلال شخصية «عتريس» ويصل خبر الفيلم إلى عبد الناصر نفسه الذى يقرر السماح بعرضه بعد أن كلف السادات بمشاهدته وإبداء الرأى بشأنه. ويتعرض الفيلم لحالة القهر والظلم الذى يمارسه عتريس على أهالى القرية وتقود «فؤادة» – التى أحبها عتريس – ثورة ضده يشارك فيها كل الفلاحين المقهورين.

وبعد عام فقط من «شىء من الخوف» يقدم يوسف شاهين رائعته «الأرض» عن قصة عبد الرحمن الشرقاوى. هذا الفيلم الذى جاء فى المركز الثانى ضمن قائمة أفضل مائة فيلم فى تاريخ السينما.

في فيلم «الأرض» استطاع يوسف شاهين أن يرصد بدقة وحرفية عالية حياة قرية مصرية فى العقد الثالث من القرن العشرين ،ولم يكن  النص الذى كتبه الشرقاوى شديد الغنى والثراء فحسب بل امتلك رؤية عميقة ونافذة للتناقضات وصراع النفس البشرية وتأثير أدوات ووسائل الانتاج فى القرية المصرية.

وقد ساهم فى النجاح الكبير للفيلم، الأداء المبهر  لمعظم أبطال العمل محمود المليجي، عزت العلايلي ويحيي شاهين، علي الشريف. ويظل مشهد النهاية الشهير فى«الأرض» أحد كلاسيكيات السينما المصرية، ليس فقط على المستوى الفنى، ولكن أيضا لأنه انحاز للفلاح المصرى بتكثيف شديد وكشف تلك العلاقة الوجودية والأزلية بين الفلاح المصرى وأرضه.

فلاح «الانفتاح»

مع نهاية تلك المرحلة «ثورة يوليو» والتى تميزت بتقديم نماذج ايجابية للفلاح ورصد ماتعرض له من ظلم وافقار وتجويع خلال الحكم الملكى، إلا أن مرحلة ما بعد الانفتاح الاقتصادى قد شهدت تغيرا واضحا فى تناول السينما للفلاح والقرية حيث ركزت على نماذج الهجرة من القرية الى المدينة هربا من شقاء الزراعة وبحثا عن حياة المدينة الناعمة والمرفهة، ليتحول الفلاح  الى مصدر للسخرية ومادة للتهكم ونموذج للسذاجة.

وكانت الأعمال التى قدمها المخرج أحمد السبعاوى مع النجم عادل امام 1983وهى «المتسول» و«عنتر شايل سيفه» نموذجا لتلك المرحلة. كما تعرض المخرج عاطف الطيب والكاتب وحيد حامد لذلك القروى البسيط الساذج من خلال فيلم البرئ لكن الفارق بين شخصيات الطيب البسيطة الساذجة أحيانا خاصة «أحمد سبع الليل» وبين غيره من شخصيات مخرجين آخرين هو ذلك العمق الدرامى الذى يميز الشخصية وايضا البنيان المتكامل لأبعاد الشخصية الريفية بكل مكوناتها.

المواطن مصري

وفى عام 1991 قدم  صلاح أبو سيف رائعة سينمائية اخرى وهي فيلم «المواطن مصرى» عن «رواية الحرب فى بر مصر» للروائى يوسف القعيد والذى لعب بطولته عمر الشريف وعزت العلايلى وعبد الله محمود. ويرصد هذا العمل المتميز، الانقلاب الذي رافق تولى السادات حكم مصر خلفا لعبد الناصر فيما يخص الانحيازات الاجتماعية، حيث تعود مجددا الفوارق الطبقية الصارخة فى القرية المصرية ومدى تأثيرها حتى فى اصعب المواقف حين يتم الدفع بفلاح فقير الى الخدمة العسكرية بدلا من ابن عمدة القرية الذى يخشى على نجله من الحرب. ويكشف الفيلم مدى السلطة التى يخلقها المال والنفوذ فى الريف المصرى.

وفى عام 2010 يقدم المخرج مجدى أحمد علي واحدا من أهم الأعمال التى ترصد أوجاع  المجتمع الريفى وأمنياته من خلال فيلم «عصافير النيل» عن قصة الروائى الراحل إبراهيم اصلان وبطولة فتحى عبد الوهاب وعبير صبرى، ويتناول الفيلم تأثيرات المرض الأكثر انتشارا فى الريف المصرى وهو الالتهاب الكبدى الوبائى «فيروس سى» والذى غالبا ما يصيب الفلاحين نتيجة الاصابة المبكرة بمرض «البلهاريسيا».

نحن اذن امام مسيرة سينمائية يزيد عمرها عن المائة عام مرت بعدة مراحل فى تطورها وخضع التناول الفنى خلالها، للريف المصرى والفلاح لعوامل إجتماعية وسياسية، وأثّرت المتغيرات التى شهدتها مصر على تعاطى السينمائيين مع هذا الشأن. ويبقى المؤكد أن الفلاح كما ظُلم مجتمعيا واقتصاديا فى معظم العصور والمراحل الزمنية، فقد ظُلم بنفس الدرجة على شاشات السينما.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock