مختارات

مجتمع عميق متطرف

يبدو مسار الجماعات المتطرفة براقا في ظاهره أما باطنه فمعتم إلى حد كبير. ويتمثل هذا البريق في زعم أتباعها أنها جماعات ربانية تمثل «جيل النصر المنشود» أو تحاول ان تستعيد تجربة «الجيل الفريد» في صدر الإسلام، وتستعين على صناعة هذه الصورة بتوظيف النصين القرآني والنبوي بإفراط شديد، وكذلك تقديم حلول نظرية سهلة للمشكلات الحياتية التي تواجه الناس، البسيط منها والمعقد، في سبيل بناء عمق اجتماعي لها.

أما الباطن فهو أن هذه الجماعات صاحبة مشروع سياسي في الأصل وما الدين لديها إلا قشرة أو طلاء، ولذا ما إن توضع مقولاتها وتصرفاتها موضع اختبار إلا ويسقط الطلاء، ويظهر الجوهر على قبحه وماديته ودنيويته، فيكتشف الناس زيفه فينبذونه ويهجرونه نادمين على لحظات الثقة التي أولوها لهذه الجماعات، ومستعيذين بالله من استغلال جلال الدين في مثل هذه الأفعال الدنيوية البحتة.

إن مسلك هذه الجماعات يقوم على فكرة إيهام الناس، واستغلال مشاعرهم الدينية، لاسيما أن القائمين عليها يدركون أنهم ينفذون خطة خداعية طويلة المدى، يتحدثون عن تفاصيلها في غرفهم المغلقة، فإن خرجوا على الملأ بدلوا وجوههم وألسنتهم، وأظهروا غير ما يبطنوا، في عملية تحايلية يسندونها لتبريرات فقهية معوجة، لكن الناس سرعان ما يكشفوا مآرب هؤلاء المتطرفين ويتخلون عنهم، بل يتصدون لهم.

ويسعى فكر الإخوان وممارساتهم دوما للوصول إلى أعماق المجتمع بغية السيطرة عليه، واستخدام إمكانياته في إدارة اللعبة السياسية مع السلطة الحاكمة، ولاسيما الجيش والشرطة، إذ ينظر الإخوان إليهما باعتبارهما «القلب الصلب» للدولة، ولا يمكن مواجهتهما إلا بكتلة بشرية ضخمة.

وفي الحالة المصرية مثلا إذا كان الجيش والشرطة قد مثلا دولة عميقة، في نظر الإخوان، فإن الجماعات والتنظيمات المتطرفة بمختلف أطيافها مثلت مجتمعا عميقا، حيث عززت الجماعات المتطرفة وجودها على مستوى المجتمع، وخاصة في الريف الذي يعد القاعدة الأكثر أهمية بالنسبة لها.

وفي مختلف البلدان العربية والإسلامية سعت الجماعات الدينية المتطرفة إلى اجتذاب من ألقتهم الظروف الاقتصادية الجديدة على قارعة الطريق، أي هؤلاء المهاجرين من الريف إلى المدينة، ولا يجدون عملا، ويعيشون في الأحياء الفقيرة. فقد وجد هؤلاء في الجماعات الدينية مصدرا لبعض الأعطيات والصدقات بعد أن أعطت أغلب هذه الدول ظهرها لعملية تنمية حقيقية وناجزة وضرورية لمواجهة الفقر والتهميش، في ظل العجز الذي أصاب قدرتها على التوظيف، وتقديم مختلف الخدمات للمواطنين، خاصة في مجالات الصحة والتعليم والتموين.

وقد أثبتت بحوث ميدانية بالفعل أن التنظيمات والجماعات الدينية المتطرفة، في إطار سعيها لبناء قاعدة اجتماعية تمكنها من اقتناص السلطة السياسية، تسارع لتعويض العجز الذي تعانيه كثير من الدول في توفير الخدمات الاجتماعية الأساسية لمواطنيها، وخاصة بالمناطق الفقيرة في الأرياف والأحياء العشوائية في المدن. ففي هذه المناطق أنشأت مؤسسات لتقديم الخدمات الاجتماعية مثل المستشفيات والعيادات وجمعيات المساعدة القانونية، وساهمت في المشروعات الاقتصادية كالبنوك الإسلامية وبيوت الاستثمار وشركات التأمين، وتغلغلت في التعليم مثل المدارس ودور الحضانة ومعسكرات الشباب وسلك التدريس الجامعي، وصار لها باع في مجال النشر الديني والإذاعة، وكثير من مشاريع التكافل الاجتماعي، ومنها على سبيل المثال المجموعات غير الرسمية الخاصة بالادخار والمعروفة باسم الجمعيات، أو القروض الدوارة، حتى أن بعض أتباع الإخوان أصبحوا بمنزلة أخصائيين اجتماعيين، ومساعدين في جهود التخفيف من حدة الفقر، ليس بهدف الأخذ بأيدي الناس حقا، بل تجييشهم في العملية السياسية.

لكن المتطرفين بدأوا يفقدون تدريجيا عمقهم الاجتماعي للعمق الاجتماعي، الذي صنعوه على مهل عبر عقود من الزمن ومن خلال وسائل عدة، وكان يشكل بالنسبة لهم «الذخيرة البشرية» التي يستمدون منها العزم والنصرة، سواء عبر حشود جماهيرية متتابعة هي أقرب إلى «استعراض القوة» أو عبر التصويت في الانتخابات بدءا من الاتحادات والروابط إلى الانتخابات التشريعية مرورا بالنقابات المهنية.

وهذا الفقدان جاء في ركاب الهزة العنيفة التي تعرض لها تنظيم الإخوان والمتحالفون معه من السلفية الجهادية والدعوية، وحتى أولئك الذي افترقوا عنهم في المسار السياسي نالهم ما نال الإخوان من الاستهجان الاجتماعي نظرا لأن عموم الناس لا ينشغلون بالتمييز الدقيق بين هذا وذاك، ويضعون في سلة واحدة كل من يستغلون الإسلام في التنافس على السلطة أو حيازة التمكين الاجتماعي والثروة.

وقد تجلي فقدان الجماعات المتطرفة لعمقها الاجتماعي في عدة مظاهر منها: أفول سحر الخطاب المتأسلم، وانتباه الدولة إلى ضرورة السيطرة على منافذ الوعظ، ومراقبة مؤسسات الرعاية الاجتماعية، حتى لا يستغلها المتطرفون، علاوة على المواجهة الشعبية، وافتضاح الصورة المصطنعة لهذه الجماعات، خاصة جماعة الإخوان، التي طالما قدم أتباعها أنفسهم على أنهم إما «ضحايا» أو «شهداء» أو «مناضلون»، وقد ساعد هذا على تقليص قدرة الإخوان والجماعات المتطرفة على التعبئة والتجنيد، لاسيما بعد تزعزع المنتمين لها.

وقد اكتشف الناس أن أتباع الجماعات المتطرفة يقدمون وعودا تنتهي إلى لا شيء، ولا تفارق مرحلة رفع الشعارات العامة التي لا تجد ترجمة صحيحة ودقيقة وتفصيلية في أرض الواقع. وفي الزمن الحديث والمعاصر، رفعت جماعة الإخوان، على سبيل المثال، شعارات مثل: «الإسلام هو الحل» و«نحمل الخير لكل الناس» ثم «نحمل الخير لمصر» و«مشروع النهضة»، لكن حين وصلت إلى الحكم وجد الناس هوة شاسعة بين الفكر والفعل، وبين الخطاب والممارسة، وبين الأقوال والأفعال. 

نقلا عن: 24

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock