رؤى

«القبائل الدينية» الجديدة.. لماذا يستهدف الإرهاب أطراف مصر؟

تقديم «أصوات أونلاين»

 أعلن المتحدث باسم الجيش المصري يوم الجمعة الفائت 27 سبتمبر 2019 عن مقتل واصابة ضابط و9 جنود أثناء «مداهمة بؤر إرهابية». وكانت مصادر إعلامية قد تداولت أنباء عن وقوع عدد من القتلى والجرحى من الطرفين خلال هجوم تبنته داعش على كمين التفاحة قرب بئر العبد شمال سيناء. يأتي هجوم كمين بئر العبد الأخير مع اقتراب الذكرى الثانية لمذبحة الإرهاب ضد مسجد الروضة بالقرية ذاتها، في 24 نوفمبر عام 2017، والتي راح ضحيتها 305 مصلين من أهالي القرية.

من ناحية أخرى كانت وزارة الداخلية قد أعلنت قبل ثلاثة أسابيع عن مقتل 6 عناصر إرهابية أثناء محاولة ضبطهم داخل العمق الصحراوى بالواحات البحرية، ما يشير إلى أن خطر الإرهاب لا يقتصر على سيناء وحدها، بل يتعداها إلى التجمعات القبلية على أطراف مصر بوجه عام.

 و بعيدا عن صعوبات التحليل الأمني، لاسيما في ظل شح المعلومات وغياب التحليل السياسي لتوازنات القوى السياسية في سيناء بما فيها تلك الداعمة لجماعات الإرهاب، فإن موقع «أصوات أونلاين» ينشر هذا المقال كمحاولة للعثور على تفسير ثقافي اجتماعي لتزايد العمليات الإرهابية في المجتمعات القبلية على أطراف مصر خلال السنوات الأخيرة، ولماذا تنجح داعش في تجنيد أفراد من تلك المناطق كمقاتلين أو كداعمين محليين غير مباشرين يوفرون المعلومات أو الدعم اللوجستي المطلوب؟ وأخيرا ما طبيعة المناخ الثقافي والبيئة الاجتماعية التي جعلت تحول بعض أهالي تلك المناطق للإرهاب أمرا محتملا أكثر من ذي قبل؟

«أصوات أونلاين»

 من العنف السياسي إلى الإرهاب المفتوح

باستثناء مذبحة الأقصر التي كانت موجهة لأجانب وليس لمصريين عام 1997، والتي نفذها شباب ينتمون للجماعة الإسلامية دون أوامر من قادتهم – في بعض الروايات-، وأحداث أسيوط التي تورط فيها تنظيم الجهاد عام 1981 بعد يومين فقط من قتل السادات والتي وصفها أيمن الظواهري آنذاك بأنها كانت «انتفاضة عاطفية ذات نصيب متواضع من التخطيط»؛ باستثناء هاتين الحالتين، وبالمقارنة بالأوضاع في مجتمعات أخرى في الإقليم، ظل الإرهاب في مصر يحتفظ بطبيعته كإرهاب محدود يستهدف بالأساس توصيل رسالة سياسية باستخدام العنف والقتل. ضد رجل دين كالشيخ الذهبي أوأديب و مفكر كنجيب محفوظ أو رمز سياسي للدولة أو أفراد محدودين تابعين للأمن أو الجيش أو كنيسة أو ضريح لأحد الأولياء… إلا أن مستوى الإرهاب ونطاقه أخذ في التصاعد خلال السنوات الأخيرة خاصة في المجتمعات القبلية على الأطراف حتى وصل إلى ذروته في مذبحة مسجد الروضة الصوفي قبل أن تستهدف كل أهالي قرية بئر العبد ما انتهى بمقتل 305 ضحية بدم بارد دون استثناء للنساء أو الأطفال، وهو التحول الذي لم يتوقعه دارسو العلوم السياسية وبقى دون تفسير سياسي مقنع حتى الآن.

الصراع القبلي له تاريخ

    على الرغم من أن مشهد بئر العبد مثّل نقلة نوعية في مستوى العنف واتساع نطاقه على مستوى التتبع التاريخي السياسي، إلا أنه لم يكن سوى ذروة جبل الجليد الغاطس لتاريخ من التطور الاجتماعي الطبيعي المتدرج لمستوى عنف الصراع بين القبائل وبعضها ثم بين الجماعات الدينية المسيسة التي تستحق وصف «القبائل الدينية الجديدة» في سيناء بالذات.

   عرفت القبائل الكبرى في سيناء الصراع على المياه والحدود والنفوذ وطرق التجارة منذ القدم. في العام 1889 تم نوع من «ترسيم» الحدود بين القبائل الكبرى لا يزال ساريا حتى الآن، ويشكل كسره من آن لآخر –بهدف تعديله- السبب الرئيس للعديد من الصدامات القبلية- القبلية في السنوات الأخيرة. تراوحت الصدامات عادة بين قتل وخطف أفراد قبل أن تتصاعد في السنوات الأخيرة إلى استهداف شاحنات تجارية، خاصة إلى غزة، باستخدام قذائف آر بي جي، واستهداف تجمعات القبائل المنافسة باستخدام السيارات المفخخة.

من الثأر «الشريف» إلى القتل «الجبان»

   ترجع آخر الدراسات الإجتماعية الميدانية الكبرى لمجتمعاتنا القبلية إلى التسعينيات. خلال العقدين الأخيرين جرت في النهر – وتحته – مياه كثيرة وخطيرة تغيرت معها طبيعة هذه المجتمعات سواء في سيناء أو الصحراء الغربية أو الصعيد. وفيما يشبه نظرية الأواني المستطرقة فإن التحول من الثأر الاجتماعي الفردي «الشريف» –من وجهة نظر أصحابه ووفق قوانين الثأر المتوارثة– إلى القتل الجماعي «الجبان» لأهل القاتل، انعكس سياسيا في صورة تحول مواز من حالة الإرهاب المحدود بهدف توصيل رسالة سياسية إلى حالة القتل الجماعي المفتوح غزير الدماء المنفلت من أى ضوابط مجتمعية.

    على خلاف الشائع فإن التحول الكبير في حجم وطبيعة الصدامات الثأرية في المجتمعات القبلية في مصر وتحولها من الثأر الفردي إلى القتل الجماعي لم يبدأ مع صدام أسوان الشهير عام 2014 بين قبيلتي الدابودية النوبية وبني هلال العربية الأصل، الذي انتهى بـ26 قتيلا من الطرفين. بل إنه يسبق ذلك بحوالي عقدين من الزمان حين وقعت أول مذبحة ثأرية جماعية من نوعها راح ضحيتها 23 شخصا من عائلة واحدة في قرية بيت علام بمحافظة سوهاج، وهى الواقعة التي دشنت سقوط نظام الثأر التقليدي الذي كان منضبطا بأعراف يلتزم المجتمع المحلي بها أكثر مما يلتزم بالقانون.

   لم يكن الثأر «الشريف» يوما تعبيرا عن الغضب الانفعالي المنفلت من كل عرف، بل كان له نظام وتراتبية فيمن ينال شرف الأخذ بالثأر، ومن يتم أخذ الثأر منه، كما أنه محكوم بقاعدة القصاص الفردى (فرد بفرد)، وبقاعدة عدم التمثيل بجثة المقتول، وأن النساء والأطفال خارج حسبة الثأر.كان لقدسية هذا النظام وتلك القواعد العرفية أكبر الأثر فى منع تحول الثأر إلى نوع من الحروب الأهلية المفتوحة بين القبائل من آن لآخر.

رؤية بدائية

في تجسيد سياسي دموي لعقلية الاستباحة التي طرأت على هذه المجتمعات تم تدشين عقيدة تعميم المسؤولية القبلية حين تعامل الإرهابيون مع أهالي قرية الروضة من أتباع الشيخ الصوفي عيد أبوجرير بقرية بئر العبد باعتبارهم جميعا موسومون بتهمة ممارسة البدع الصوفية المخالفة لعقيدة السلف، أي أنه تم التعامل معهم باعتبارهم «بدنة» واحدة بكل «أفخاذها» – بالمصطلح المحلي.

  يوحي اسم الجماعة القرابية الكبرى «البدنة» بتصور عضوي بيولوجي لمجتمع القبيلة؛ «فالبدنة» -نسبة الى البدن- تنقسم إلى عدد من «الأفخاذ» – العائلات – بينما تنقسم كل عائلة إلى عدد من البيوت، وكل بيت إلى عدد من الأسر، واتساقا مع هذا المعتقد القبلي الذي يتم تلبيسه بالدين ،فإن كل طفل في القبيلة / القرية، ولدا كان أو بنتا، كان ينبغي قتله في مسجد الروضة ومحيطه باعتباره جزءا عضويا من «البدنة الضالة» خاصة وأن «العرق دساس» (وهو حديث متفق على كونه ضعيف وغير صحيح، وإن كان الفقهاء يرون أن معناه العام لا بأس به في الاختيار للزواج).

  من ناحية أخرى فإن المرأة تنسب في التقاليد القبلية لقبيلتها الجديدة، قبيلة زوجها، وبالتالي فإن نساء مسجد الروضة استحققن القتل – دون تردد أيضا – ضمن هذا التعميم القبلي البيولوجي البدائي المتجذر في الثقافة القبلية التي يتشبع بها من خططوا للمذبحة ومن نفذوها.   

   ملفتة هى السلاسة التي تقبل بها عدد من إرهابيي سيناء فكرة التحول من حالة «الثأر» الديني المحدود، المقيد بقيود شرعية محكمة، ضد شخص الشيخ عيد أبوجرير – كما سبق تجاه الشيخ الذهبي وغيره من قبل -إلى حالة الإرهاب والقتل الجماعي المفتوح تجاه قبيلة/ قرية بأكملها، وهو تحول يعكس تغلب الاعتقاد القبلي على الاعتقاد الديني في تحديد السلوك السياسي لتلك الجماعات الدينية القبلية الجديدة.

وهذه حالة يصعب تفهمها إلا في ضوء اعتيادهم أصلا على ما وصلت إليه قبائلهم من عنف ثأري مفتوح في الصراعات الاجتماعية  القبلية- القبلية في السنوات الأخيرة، وبعد انهيار منظومة «الثأر الشريف» التقليدية بسبب دخول عامل  الإستهداف السياسي الواسع من قبل جماعات التطرف وهو ما يعيد تشكيل الثقافة المجتمعية على أطراف مصر، في ظل حالة من الاكتفاء بتتبع التحولات السياسية الظاهرة على السطح مع إهمال متواصل من قبل المجتمع والدولة للتحولات الثقافية الاجتماعية العميقة التي طرأت على هذه المجتمعات خلال السنوات الأخيرة.

فؤاد السعيد

كاتب وباحث مصري متخصص في الثقافة السياسية felsaid58@gmail.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock