ثقافة

أبو القاسم الشابى.. شاعر الحب والثورة

تقول كتب الأدب: إن جريرا والفرزدق كانا يتهاجيان، ثم أدخل الشاعر الراعي النميري نفسه بينهما وهجا جريرا لصالح الفرزدق.

فمكث جرير يفكر في صنع قصيدة يفجرها في وجه الراعي النميري، وفي ليلة جاءه خاطر الشعر فقال للرجل الذي يملي عليه قصائده: زد في زيت سراجك الليلة وجهز دواة وألواحا، وهذا يعني أنه سيملي عليه قصيدة طويلة جدًا وتحتاج لكثير من السهر.

وعندما قعد الرجلان، جرير وكاتبه، قال جرير بيته الذي لا بيت أشهر منه:

«فغض الطرف أنك من نمير… فلا كعبا بلغت ولا كلابا».

وبعد هذا البيت قال جرير لكاتبه: «أطفئ السراج ونم فإني قد فرغت منهم».. نعم بيت واحد دمر سيرة قبيلة كاملة، وشيء مثل هذا وقع لشاعر حديث هو أبو القاسم الشابي، لكن الفارق أن جريرا أشتبك مع شاعر هو الراعي النميري، أما أبو القاسم فكان يشتبك مع الحياة ذاتها فقال بيته الخالد:

«إذا الشـــعبُ يومًــا أراد الحيــاة..فــلا بــدّ أن يســتجيب القــدرْ».

هذا البيت من قصيدة طويلة عريضة، لكنه البيت العلامة الذي انطلق مذ قاله صاحبه ليملأ الآفاق، وظني أنه سيظل كذلك إلى أن تكف العرب عن الشعر، ولن تكف العرب عن الشعر إلا إذا كفت الإبل عن الحنين. فسبحان الله مقسم الأرزاق، بيت واحد ضمن لشاعر شاب الخلود في سجلات الأدب العربي، وجعل صاحبه شاعرًا لكل الثورات العربية.

جميعنا يعرف البيت ويعرف بعض شعر أبي القاسم ولكن قليلين منا هم الذين يعرفون أبا القاسم نفسه، والذي تمر هذه الأيام ذكرى رحيله.

أزهر تونس

تعلم الشيخ محمد الشابي في الأزهر الشريف في مصر، وعندما عاد إلى بلده تونس أصبح قاضيًا، ثم تزوج فوُلِد له أربعة  ذكور، هم أبو القاسم ومحمد الأمين وعبد الله وعبد الحميد. تعلم الأولاد جميعًا خير تعليم، وبرز منهم شاعرنا أبو القاسم وشقيقه محمد الأمين الذي تولى منصب وزير التعليم في أولى الحكومات التونسية بعد التحرر من الاحتلال الفرنسي.

الأب الشيخ القاضي محمد الشابي كان بحكم وظيفته كثير التنقل بين مختلف مدن تونس، لكنه كان حريصًا أشد الحرص على حسن تربية وتعليم أولاده.

ولد أبو القاسم ابن الشيخ القاضي محمد بن الشابي في يوم الأربعاء الموافق للرابع والعشرين من فبراير من العام 1909م وذلك في مدينة توزر في تونس.

عاش أبو القاسم طفولته متنقلًا مع أبيه وأسرته بين مدن تونس مثل سليانة و قفصة وقابس و جبال تالة و مجاز الباب و رأس الجبل وزغوان، ذلك التنقل سيضفي على شعره ـ فيما بعد ـ مذاقًا خاصًا.

بعد أن حفظ أبو القاسم القرآن الكريم كاملًا وعرف القراءة والكتابة والحساب، أرسله والده وهو في الثانية عشرة من عمره إلى العاصمة تونس ليواصل التعلم في جامع الزيتونة، وهو يقوم عند التوانسة مقام الأزهر عند المصريين.

حصل أبو القاسم على شهادة الثانوية من جامع الزيتونة في العام 1927، وكانت تلك الشهادة هى أرفع شهادة يمكن الحصول عليها في ذلك الوقت، ولم يكتف  بتلك الشهادة الرفيعة التي تمكنه من العمل في قطاعات التدريس والقضاء فواصل رحلة تعليمه حتى حصل على شهادة مدرسة الحقوق العليا التونسية في العام 1930.

داء الحزن

بعضهم يولد وهو مجهز لاستقبال الأحزان، من هؤلاء كان شاعرنا أبو القاسم، ففي طفولته جعله التنقل الكثير بين مختلف المدن يفارق ذكرياته وأصحابه والبيوت التي يقيم بها، كثرة مرات الترحال تتعب نفسية أمثال أبي القاسم، ثم جاءت قراءاته الكثيرة والمتشعبة في كافة أنواع الآداب لتزيد من رهافة حسه وتجعل وقع ما يقرأ شديدًا على نفسه، ثم كان موت والده الشيخ الجليل الحنون في العام 1929 طريقًا إلى اليتم الثقيل الذي لم يبرأ الشابي منه، ثم هو قد عرف حب الأنثى مبكرًا جدًا، ولكن حبيبته ماتت في ريعان شبابها فظل طيفها يطارده ليل نهار فأكثر من الكتابة عن حبيبة هى إلى الطيف الملائكي أقرب منها إلى عالم الأنثى الواقعي.

وعندما نقرأ قصيدته الرائعة «صلوات في هيكل الحب» سندرك أننا أمام رجل لم يعرف إلا الوجه النقي الطاهر من المرأة، وهو الأمر الذي لفت شاعرنا فاروق شوشة فأورد قصيدة الشابي بين أحلى عشرين قصيدة حب في تاريخ الشعر العربي وتوقف شوشة طويلًا أمام مفردة «أنتِ» التي ملأ بها الشابي قصيدته:

 «أنتِ .. أنتِ الحياة، في قدْسها

السامى، وفي سحرها الشجيِّ الفريدِ

أنتِ.. أنتِ الحياة، في رقَّة

الفجر وفي رونق الرَّبيعِ الوليدِ

أنتِ.. أنتِ الحياة كلَّ أوانٍ

في رُواءِ من الشباب جديدِ

أنتِ.. أنتِ الحياة فيكِ

وفي عيْنَيْكِ آياتُ سحرها الممدُودِ

أنتِ دنيا من الأناشيد والأحْلام

والسِّحْرِ والخيال المديدِ

أنتِ فوقَ الخيال، والشِّعرِ، والفنِّ

وفوْقَ النُّهَى وفوقَ الحُدودِ

أنتِ قُدْسي، ومَعبدي، وصباحي،

وربيعي، ونَشْوَتِي، وَخُلودي

يا ابنة النُّور، إنّني أنا وَحْدي

من رأى فيكِ رَوْعَة المَعْبُودِ».

داء الحزن هذا سيكون سببًا في المتاعب الصحية التي سيقع الشابي في قبضتها ولن يفلت منها إلا برحيله.

بزوغ الفجر

يولد الإنسان ومعه يولد قدره ، وقد كان الشعر هو قدر الشابي، لأن حفظه للقرآن الكريم جعله متمكنًا من ناصية اللغة، وتمكنه هذا قاده إلى القراءة المتعمقة في أسرار البيان، وفتح عينيه على آداب الأمم الأخرى، فرغم اعتماده الكامل على الثقافة العربية، إلا أنه كان يقرأ كل ما يصل إلى يديه من ترجمة العرب لآداب الأجانب، ثم كانت هناك المنتديات الأدبية التي كانت تضيء ليل تونس العاصمة وكان أبو القاسم من روادها بل أصبح نجمها البارز.

في مصر كانت حركة الشعر الجديد المعروفة باسم «جماعة أبولو» بقيادة الشاعر أحمد زكي أبو شادي، كانت تلك الحركة تتلقف الجديد من الشعر من مختلف البلدان العربية، فعملت على نشر قصائد الشابي في مجلتها، ثم توطدت العلاقة بين الشابي وأبي شادي حتى أن أبا شادى طلب من الشابي أن يكتب مقدمة لديوانه الشعري «الينبوع» وهذا تكريم للشابي ليس بعده تكريم.

الشاعر أحمد زكي أبو شادي

في تلك الفترة كان الشابي ينادي بتحرير الشعر العربي من كل قيوده القديمة، وقد توج هذا النداء بمحاضرة شهيرة ألقاها في العام 1929 في المكتبة الخلدونية وكان عنوانها «الخيال الشعري عند العرب».

في تلك المحاضرة وقف الشاعر الشاب مستعرضًا معظم إنتاج العرب من الشعر في مختلف الأزمنة وفي كلّ البلدان، وهذا الاستعراض يدل على عمق ثقافة الشاعر الذي لم يكن قد تجاوز العشرين من عمره، وبعد الطواف بالعوالم الشعرية حمل أبو القاسم على الجمود العربي في ذات المحاضرة حملة قاسية مما أثار ردود فعل منتقدة له لدرجة دعوة بعض المحافظين لمقاطعته.

دعوى المقاطعة التي تأثرت بها نفسية الشابي، لم تجعله يركن إلى الصمت، فقد واصل تألقه حتى أصبح كاتب مجلس جمعية الشبان المسلمين حديثة النشأة.

بعد تلك المحاضرة وبعد نشر قصائده في مجلة أبولو أصبح الشابي رقمًا لا يستهان به بين شعراء المغرب العربي.

إشارة الرحيل

هل ولد الشابي بعيب خلقي أصاب قلبه، أم أنه مرض في طفولته ولم يكتشف أحد علته حتى تفاقمت؟.. الذي نعرفه أن أبا القاسم كان يعاني من مشكلة خطيرة أصابت قلبه فجعلته يكثر من التردد على الأطباء الذين نصحوه جميعًا بعدم بذل مجهود بدني أو فكري عنيف، ولكنه كان من الشعراء الذين تحترق قلوبهم بحثًا عن بيت واحد.

كتب أبو القاسم في يومياته الخاصة بتاريخ الخميس 16-1-1930 وقد مر ببعض الضواحي: «ها هنا صبية يلعبون بين الحقول وهناك طائفة من الشباب الزيتوني والمدرسي يرتاضون في الهواء الطلق والسهل الجميل ومن لي بأن أكون مثلهم؟ ولكن أنّى لي ذلك والطبيب يحذر علي ذلك لأن بقلبي ضعفاً! آه يا قلبي! أنت مبعث آلامي ومستودع أحزاني وأنت ظلمة الأسى التي تطغى على حياتي المعنوية والخارجية»..

تنقل أبو القاسم بين مختلف مدن تونس، بل والمغرب العربي بحثًا عن الشفاء من علته، حتى أنه أقام فترة في مدينة قسنطينة الجزائرية، وعاش فترة في مدينة طبرق الليبية، ومع كل تلك المواجع رأى شاعرنا أن يشتبك مع الحياة فكتب قصيدته الخالدة التي جاء فيها

«إذا الشعب يومًا  أراد الحياة         فلا بد أن يستجيب القدر

ولا بــــدَّ لليـــل أن ينجـــلي     ولا بــــدّ للقيـــد أن ينكســـرْ

ومــن لــم يعانقْـه شـوْقُ الحيـاة      تبخَّـــرَ فــي جوِّهــا واندثــرْ

كـــذلك قــالت لــيَ الكائنــاتُ    وحـــدثني روحُهـــا المســـتترْ

ومن يتهيب صعود الجبال     يعش أبَــدَ الدهــر بيــن الحــفرْ

هــو الكــونُ حـيٌّ يحـبُّ الحيـا     ويحــتقر المَيْــتَ مهمــا كــبُرْ».

تلك القصيدة ببيتها الشهير «إذا الشعب يومًا أراد الحياة» ستكون العلامة الدالة على شاعرية الشابي، فمن يوم أن قالها وهى تسري بين العرب، فلا تمر ثورة ولا مظاهرة ولا حراك ثوري إلا وقد حضرت تلك القصيدة التي حفرت اسم شاعرها في الوجدان العربي، فبعد رحيله بسنوات كثيرة سيصل شعره إلى أسماع المطربين فتغني له المطربة لطيفة قصيدته «إلى طغاة العالم».

وتغني له المطربة أمينة فاخت قصيدة «اسكني يا جراح». أما قصيدته «عذبةٌ أنت» فيغنيها محمد عبده. وتغني له ماجدة الرمي قصيدة «ألا انهض وسر» وتغني له السيدة فيروز قصيدة «الراعي».. وكل هذا الانتشار كان من بركات بيته «إذا الشعب يومًا أراد الحياة».

اليقين

معرفة الشابي بالقرآن جعلته يؤمن أن اليقين الوحيد في هذه الحياة هو الموت، ولكن تلك المعرفة لم تجعله يستسلم، فقد ملأ السماء التونسية والعربية بقصائده التي تتغنى بالحياة وبمحبتها وبالتحريض على الثورة الدائمة.

يقول مؤرخو حياة الشابي: جاء شتاء  أواخرالعام 1933 وأوائل العالم 1934 فساءت حالة الشابي فاضطر إلى ملازمة الفراش مدة. حتى إذا مر الشتاء ببرده وجاء الربيع ذهب الشابي إلى مسقط رأسه مدينة توزر طالباً الراحة والشفاء، ولكن نوبة ألم دفعته للسفر إلى العاصمة تونس ودخول المستشفى، ومرت أيام مرضه صعبة وثقيلة وطويلة ،وعندما جاء فجر اليوم التاسع من شهر أكتوبر من العام 1934  لفظ شاعرنا أنفاسه الأخيرة ، ترجل الفارس عن جواده وهو ابن الخامسة والعشرين من عمره، فأي رجل كان أبو القاسم الشابي؟

فرغم الحزن وألم القلب والعيش تحت وطأة الاحتلال الفرنسي كتب أبو القاسم قصيدة الثوار العرب الذين حفظوا جميله وصانوا معروفه، فسرعان ما أقام له ثوار تونس مزارًا يضم رفاته ونحتوا لوجهه الشاب تمثالًا يقف شامخًا شموخ شعره في أشهر ميادين بلدته توزر، لينام الشاعر قرير العين بعد أن أدى دوره كاملًا في نصح أمته وحثها على طلب الحرية رغم أنوف الطغاة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock